ترويض مزدوج
بقلم : الياس الزغبي
13 – 6 – 2010
أتاحت تطورات الأسبوعين الأخيرين التفكير في وجود خطّة دولية اقليمية قادتها الولايات المتحدة وتركيا ، خلافا لمظاهر الاختلاف بينهما ، أدّت الى وضع ايران واسرائيل معا تحت قيود وضوابط يمكن تسميتها بالترويض المزدوج أو الاحتواء الثنائي الذي حصل مثيل له في التسعينات ضد العراق وايران .
الاحتواء المزدوج السابق أسقط العراق من المعادلة ، وأطلق ، من حيث لا يدري (أو يدري كثيرا) ، النفوذ الايراني في العمق العربي وفي معادلات افغانستان وآسيا الوسطى ، وشجّع اسرائيل على التشدّد في مسارات السلام ، وعلى استثمار الخطر الايراني المتنامي وايديولوجية أحمدي نجاد في تغطية تصلّبها .
لقد تقاطع العدوّان الحميمان ، أو الصديقان اللدودان ، في لعبة المصالح ، وتغذّى كل منهما من تطرّف الآخر ، وتوزّعا مساحات النفوذ ، وأجهضا مساعي السلام ، من المبادرة العربية الى الرباعية الدولية ، ومن المسعى التركي الى مشروع أوباما ، كما حالا دون المصالحة الفلسطينية .
ليست صدفة أن تتقدّم تركيا " أسطول الحرّية " نحو غزّة ، ولا يمكن الظنّ بأنّ الولايات المتحدة ، وأوروبا وروسيا استطرادا ، كانت غافلة عن الاستعدادات التركية لقيادة الأسطول وارتدادات الحدث المنتظر وتوظيفاته ، حتّى لو لم تسقط ضحايا ، فكيف اذا سقطت .
وأيضا ليست صدفة أن تتبنّى أنقره خطة مبادلة الاورانيوم مع طهران والبرازيل ، مع علمها الأكيد أنّ المجتمع الدولي برمّته لا يثق بوعود ايران ، وقد كانت له معها تجارب مخيّبة غير مرّة ، سواء في المفاوضات المباشرة أو في مهمّة الوكالة الدولية للطاقة النووية .
ولا يغيّر وقوف أنقره ضد الدول الخمس الكبرى وسبع دول أخرى ، برفضها العقوبات على ايران ، شيئا في عملية الاحتواء أو الترويض ، بل يؤكّد القاعدة الثنائية القائلة بالضبط المزدوج : ايران في مشروعها النووي واسرائيل في خطّة نسف الحلول . وقد قطع حرص رئيس الوزراء التركي أردوغان على حسن العلاقة مع الغرب والمجتمع الدولي الشك باليقين ، فالبراغماتية التركية ليست في وارد التضحية بالمصالح العميقة مع أوروبا وأميركا وروسيا والعرب وصولا الى الصين من أجل الكاميكازية الايرانية ، كما لا يمكن تخيّل وقوع تركيا في تجربة " الحرس الثوري التركي " .
حين يتصدّر أردوغان المشهد السياسي الاقليمي فليس على حساب دور المجتمع الدولي بل لحساب المعادلة الجديدة : تراجع الخيار الحربي الايراني الى الصف الخلفي ومعه خيار التطرّف الاسرائيلي ، مقابل تقدّم خيارات السلام ، وفي صلبها المبادرة العربية للسلام .
هذه المعادلة وضعت ايران واسرائيل في حالة حرج ، وعزّزت التقارب بين الدول العربية ، وجعلت الفروع الايرانية من لبنان الى غزّة والعراق ترتبك أمام تباعد مرجعياتها . ولا يُحسد " حزب الله " و " حركة حماس " على وضعهما ، أمام مؤشّرات ابتعاد الرافد السوري عن النبع الايراني .
صدمة " حزب الله " مثلا تمثّلت في التزام لبنان الموقف العربي العام حين امتنع عن التصويت ، بما فيه موقف المصنّفين في خانة الممانعة والمقاومة الذين تتقدّمهم سوريا . هل سمع أحد بانتقاد سوريا أو قطر أو سواهما لموقف لبنان في مجلس الأمن الدولي ، بل هل كان هناك صوت مرتفع غير صوت " حزب الله" والدائرين في فلكه ضد الامتناع ، وهل كان في امكان وزراء جنبلاط تأييد الحياد بين ايران وأميركا لولا وجود رغبة سورية سعودية واضحة في ذلك ؟ أمّا تصويت وزراء رئيس الجمهورية ضد العقوبات فلم يكن سوى اصطفاف حسابي نظري لحفظ التوازن الشكلي ، ولم يكن له أي معنى سياسي ، وليس في وسع الرئيس سليمان أن يصطف مع المحور الايراني في وجه سوريا والعرب والعالم .
والمشكلة لدى بعض حلفاء سوريا أنّهم لا يصدّقون اتساع المسافة بينها وبين ايران ، مثل أولئك الذين لم يصدّقوا حتى الآن انهيار الاتحاد السوفياتي .
لا يمكن الذهاب بعيدا للقول انّ ايران باتت في عزلة تامّة وانّ فروعها في مأزق . ولكن يمكن التأكيد أنّ المرحلة هي لفرز التحالفات ومعاينة ما يبقى منها وما يستجدّ ، ولاختبار التحوّلات في السياسة :
- على مستوى اسرائيل ، يجب رصد التداعيات على حكومة نتنياهو ، ليونة في اتجاه التسوية أم تصلبا في اتجاه الازمة الداخلية والتغيير السياسي .
- على مستوى ايران ، فرصة للتبصّر في معاني الابتعاد العالمي عنها ، وفي أسباب " برودة " حلفائها من العرب ، ترجّح فيها كفّة العقلانية أو كفّة النجادية . يكفي أن تلقي نظرة على واقعية حليفتها " السابقة " سوريا ، وذرائعية حليفتها " الجديدة " ( والموقتة ) تركيا كي ترى ثمار السياسة الهادئة .
من طريقة تعامل هذا الثنائي مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة ، قبولا او رفضا ، يتحدّد مصير المنطقة حلاّ أو حربا . الحل يفرض على اسرائيل أثمان السلام ، والحرب توصل ايران الى انهيار الأحلام .
يبقى السؤال عن مدى الدور التركي المتقدّم ، فهل يسمح المجتمع الدولي باطلاق العنان لهذا الدور وعملقته ، بما يؤثّر سلبا على التوازنات في المثلّث الروسي الاوروبي الاميركي ؟
الأكيد أنّ الترويض المزدوج يتحوّل الى ثلاثي في حال خروج تركيا عن الضوابط المرسومة ، لئلاّ يصيب الخلل حركة الآلة العظمى التي تحمل اسم النظام العالمي .
ومسكين من لا يتّعظ من سرّ هذا النظام في القرار 1929 .