عودةُ الطُّفولةِ بقلم: فؤاد زاديكى لَيْتَني أعودُ طِفلًا، لَيْتَني أستَطيعُ أنْ أست
عودةُ الطُّفولةِ
بقلم: فؤاد زاديكى
لَيْتَني أعودُ طِفلًا، لَيْتَني أستَطيعُ أنْ أسترجِعَ أيّامًا كانَ فيها العالَمُ أصغرَ و أبسطَ، كانَتِ الأحلامُ تتشكَّلُ ببَراءةٍ و تُزهرُ بفرحٍ دونَ قيودٍ أو تَقييدات. لَيْتَني أُعيدُ تلكَ السَّنينَ، و أجمَعُها بينَ طَيَّاتِ ذاكِرتي كما يُجمَعُ الطِّفلُ قَطراتِ المطرِ من أَوراقِ الشَّجَر، ليُضيفَها إلى كَونِه الصَّغيرِ بأمانٍ و سعادةٍ. أُريدُ أن أستعيدَ لحظاتٍ لا تُقدَّرُ بثَمنٍ، و ألوانَ دُنيا لم تُلطَّخ بعدُ بمَتاعبِ الزَّمنِ و عَثراتِ الطَّريقِ.
أتذكَّرُ طُرُقاتِ الأحياءِ العَتيقةِ، و صَدى الضَّحكاتِ يتردَّدُ بينَ الأزقَّةِ كأنَّها سيمفونيةٌ أبديةٌ تُعزَفُ في عالَمٍ مَليءٍ بالشَّغفِ و البساطةِ. كُنتُ أركضُ خلفَ الطُّيورِ في السَّاحاتِ، و أمُدُّ يديَّ لألمِسَ الغُيومَ، غيرَ مُبالٍ بأدنى شَيءٍ، وكأنَّ السَّماءَ ملكي، و الأرضَ مسرحٌ لِعُروضي الصَّغيرةِ. ليتَني أستطيعُ أنْ أسترجِعَ ذلِكَ الإحساسَ النَّقيَّ الذي لا يعرفُ حُدودًا، و لا تَحدُّه قوانينُ أو مخاوفُ.
كَم كانَ جميلًا أنْ نَعيشَ في تِلكَ العُمرِ حيثُ الأحلامُ تَنبُعُ من مَصادرٍ بسيطةٍ، كَبِحَيرةٍ باردةٍ أو شَجرةٍ ظليلةٍ. لَم يَكُن للعالمِ زَيفٌ و لا صِراعات، كانتِ الأشياءُ تُرى بعُيونِ الطُّفلِ الذي يَسعى ليكتَشفَ كلَّ زاويةٍ وكُلَّ جُزءٍ مِن عالَمِه الصَّغيرِ. كانَ الصَّدقُ هو ما يَرسمُ مَلامِحَ أيَّامِنا، كُنّا نحيا بقلوبٍ لا تَعرفُ زَيفَ النِّفاقِ أو ثِقَلَ الأوهامِ، ونَنامُ مطمَئنينَ بأنَّ الغدَ سيَحملُ لنا المزيدَ مِن الفَرَحِ.
أُريدُ العودةَ إلى تلكَ اللَّحظاتِ حينَ كانَتِ الدُّنيا كُلُّها جَمالًا و رَاحةً، حينَ كانتِ الأيّامُ تَمُرُّ بلا استعجالٍ، و كانَ العَقلُ خاليًا من التَّفكيرِ العَميقِ، و كانَ الجَسدُ خاليًا من كُلِّ تَعَبٍ أو هَمٍّ. لم تَكُن هُناكَ مَسؤولياتٌ تُثقِلُنا، و لا وَاجِباتٌ تُلزِمُنا، بَل كانَت الحياةُ سَلسةً و بَسيطةً. كانَ الحُلْمُ عَظيمًا حينَ كانَتِ الطُّفولةُ تَسكنُ فينا، و الحياةُ لا تَحملُ أعباءَ الزَّمانِ و ثِقلَ الواقعِ.
كمْ تَحِنُّ نَفسِي إلى تلكَ الحُرِّيَةِ التي كَانت تُحلِّقُ في أجواءٍ مُفعمةٍ بالعَفويةِ و الصِّدقِ، تلكَ الطُّفولةُ التي تُعيدُ النَّفسَ إلى بَساطَتِها، و تُعزِفُ لَحنَ الوُجودِ ببَراءةٍ و إشراقٍ. لَيْتَني أستطيعُ أن أَعودَ و أجمعَ تلكَ الذِّكرياتِ، و أعيدَ كتابةَ كلِّ لحظةٍ بقلبي، فأَحيَا و لو لِبُرهةٍ في عالَمٍ لا تَحدُّه حدودٌ و لا تُثقلُه قيود
المانيا في ٧ نوفمبر ٢٤
__________________
fouad.hanna@online.de
|