Arabic keyboard |
#1
|
|||
|
|||
مهندس المسيحية بولس رسول الامم (الجزء السادس)
إلى روما
وفي صباح ذات يوم من أيلول سنة 60 للميلاد أرست سفينة في ميناء قيصرية لنقل الركاب إلى روما، ومعظمهم سجناء يحرسهم الجنود بإمرة الضابط يوليوس. وكان الأسرى خليطاً من مجرمين وسفّاحين وقطّاع طرق، حاشا واحداً هو بولس الرسول. وكان أولئك الأسرى يُساقون إلى المسارح ليصارعوا الضواري. أما بولس فكان مُعدّاً ليصارع الشرّ وينقذ الفضيلة من الرذيلة. وقد ادرك قائد المئة عظمة هذا الأسير، فرعى حرمته ورفاقه لوقا وتيموتاوس وأريسترخس فاحسن معاملتهم. وأقلعت السفينة مارّةً بشواطئ فينيقيا، البلد الذي اخترع السفن ذوات الدُسر(المسامير) وشرَعَ القلوع وشدَّ قُلُوسها (القلس هو الحبل الضخم) ومجاديفها ووطّد دففها وعلى اسم الخير كان مجراها ومرساها، فراضت البحار وحملت إلى موانئ الدنيا سِلَعاً لم يكن للعالم القديم بها عهد. وكان الحرف أنفس ما حملت. وربما خطر لبولس مُودَعاً تلك الشواطئ، فتح الفينيقيّين على صعيد المعرفة، فآلى على نفسه فتحاً مبنياً على صعيد الهدى، في الأفاق البعيدة. أما و هو على متن سفينة فماذا عساه ان يأتي من الخير سوى القدوة الحسنة، والشفاعة لدى قائد المئة بالأسرى الذين يعاملهم جنوده معاملة خشِنة، فكان بولس يوآسيهم بالنصح والكلام الطيّب لعلّهم يهتدون، فيفيض الله عليهم من رحمته عزاء فيصبروا ويتوبوا عما جنت أيديهم، فرُبّما كان تحت الرماد جُذىً (حجارة الذهب)، ويقيناً انّ الانسانية التي أخمدها الشرّ في تلك القلوب عادت فاستيقظت في صدورهم، بما بذل لهم بولس من محبّته ولوقا من طبّه. وكانت الرحلات البحرية عهدئذٍ محفوفةً بالمخاطر إذ لم تكن الملاحة قد اهتدت إلى الحُكّ ( اي البوصلة) فكان الربابنة يهتدون بالنجوم والأنواء ومطلع الشمس، ومهاب الرياح، فكيف بهم إذا تجهّم الفلك، وأعولت الزوابع، لذلك جزع القدامى من ركوب البحر أيَّ جزع، وعُدّ الفينيقيَون أبسل أهل الأرض وأقدمهم على المخاطر. ولما أقلعت السفينة من قيصرية وصلت صيدا، ثم سارت الى ما تحت قبرص، لأن الرياح كانت مُضادّة، ثم بلغت الإسكندرية، فأصعدهم قائد المئة الى سفينة كانت شاخصة الى ايطاليا، وأنذرهم بولس قائلاً: (أيها الرجال أرى أن السفر لن يكون بلا ضرر ولا خسارة جسيمة ليس على الوسق والسفينة فقط، بل على النفوس ايضاً)، بيدَ ان قائد المئة كان يركن الى ربّان السفينة. وإذ أخذت ريح الجنوب تهبّ في لين ظنّوا أنهم أفلحوا، فأقلعوا ملاصقين كريت، ولكن ما لبثوا أن هبّت من الجزيرة ريح زوبعيّة لعبت بالسفينة، فذعر البحّارة ولجأوا الى وسائل الإسعاف، فحزموا الموكب وتفاقمت العاصفة، فطفقوا يطرحون من الوسق. وفي اليوم الثالث ألقوا بأيديهم أدوات السفينة. ولفّهم الظلام بضعة أيام، فحجبت الشمس ضياءها، وحبست الكواكب و النجوم نورها، فباتوا في ليل دامس. وتقطّعت بهم أسباب الرجاء، فلجأوا الى قعر السفينة، بعدما ضربت الامواج سطحها، وكأنهم في قعرها المظلم يتّخذون منه رمساً. ولكن بولس كان راكعاً يصلّي مثلما صلّى معلمه في بستان الزيتون حين شارف على الموت. فلما نهكه التعب غلبه الكرى، فظهر له ملاك الربّ قائلاً: لا تخف يا بولس، فإنه لا بُدَّ لك أن تقف أمام قيصر، وها أن الربّ سيُنجيك وجميع المبحرين معك من هذه المحنة. ثم رأى جزيرة مجهولة تتحطّم عليها السفينة، فقال له الصوت: على هذه الجزيرة تسقط السفينة. فاستيقظ بولس مستقوياً وقصّ الرؤيا على رفاقه وشدّدهم فبعث الحياة في أعصابهم الخائرة. وترجّحت السفينة أربعة عشر يوماً بلياليها على الإكام الزرق الصاخبة، تائهة لا تهتدي، وأدرك النوتيّة بما لهم من السمع المرهف، والخبرة في شؤون البحر أن الأمواج تتكسّر على الصخور، فأيقنوا أنهم يقتربون من الأرض، فجزعوا أن يسقطوا على تلك الجلاميد النواتئ، رؤوسها كرؤوس الأسِنّة. وكان سواد الملاّحين من الأوشاب والعبيد ألآبقين، وسمعهم بولس يتهامسون وفي نيتهم الهرب وترك الركّاب فريسةً للأمواج، وأحدروا القارب الى البحر، كأنهم يريدون أن يمدّوا المراسي من القيدوم (مقدمة السفينة)، فقال بولس لقائد المئة وللجند: ألا احذروا فلئن يهرب هؤلاء فلا سبيل لنا الى النجاة. حينئذٍ قطع الجند حبال القارب وتركوه يسقط. ثم أخذ بولس يحرّضهم جميعاً على ان يتناولوا طعاماً فقال: إنّ ذلك يؤول إلى نجاتكم، فإنها لا تسقط شعرة من رؤوسكم، ولما قال هذا اخذ خبزاً وشكر الله، بسمع الجميع وبصرهم، وطفق يأكل فاقتدوا به وطابت نفوسهم. ولما طلع النهار أبصر النواتيّ خليجاً له شاطئ فعزموا ان يدفعوا اليه السفينة ، فنزعوا المراسي وتركوها في البحر وأرخوا ايضاً رُبُط الدفّة ثم رفعوا الشراع الصغير للريح الهابّة وتوجّهوا نحو الشاطئ، وإذ وقعوا بين مائين دفعوا ايه السفينة فنشب قيدومها وتفكّكت من شدّة الامواج. فاستلّ الجند سيوفهم وهمّوا بضرب أعناق الأسرى لئلا يفلتوا سابحين، فهرع بولس إلى قائد المئة شفيعاً، ورهن حياته بدلاً من حياة أولئك الأشقياء، وضمن له أنهم لا يفرّون. وكان بولس قد وقع من نفس القائد موقعاً كريماً، فاهتزت مشاعر القائد وانتفض فيه الشرف العسكري من جهة ورغبته في انقاذ بولس من جهة أُخرى، فأمر بفكّ القيود والنجاة لمن يريد النجاة، فرموا بأنفسهم الى البحر يصارعون امواجه في البرد القارس، وقد انهدّ حيلهم مما قاسوا من الجوع والأرق والخوف. فمنهم من عام سابحاً، ومنهم من اسعفه الملاّحون، ومنهم من اتّخذ الألواح المتناثرة سبلاً للعوم، فبلغوا الشاطئ سالمين وقد تمزّقت ثيابهم، وتورّمت اجسادهم، وانطرحوا على الشاطئ صرعى. فخف اليهم سكان الجزيرة منجدين، فدثّروهم بما تيسّر من ثياب، وانعشوا قواهم بالطعام والشراب الحارّ، واستيقظت في ذلك المقام الضنك رأفة الانسان، ولئن سمّاهم لوقا الانجيلي برابرة فإن مدلول الكلام لا يعني المتوحشين، بل الذين يجهلون اللاتينية واليونانية، إذ كان القوم يرطنون،فلا يفقه كلامهم أحد من الركاب سوى بولس وبعض الملاّحين الفينيقيّين الذين لا تستعصي على أفهامهم لهجة ولا يفوتهم لسان. وكانت الليلة مطيرة قارّة، فتفرّقوا في طلب الوقود ليصطلوا، وأتى بولس بحزمة من الحطب الجزل، فلما أضرمها انسابت منها أفعى كان قدّ جمّدها الزمهرير. فلّما استدفأت انسلت والتفّت على ذراع بولس وأنشبت نابها في يده. فلما رأى البرابرة ذلك قال بعضهم لبعض: لا شك أن هذا الرجل قاتل، فإنه بعد نجاته من البحر ظلّت إلهة العدل تلاحقه في البرّ. أمّا هو فنفض الافعى إلى النار ولم يمسّه منه أذى. أما هم فكانوا يتوقعون أنه سينتفخ، أو يسقط على حين بغتة. وإذ طال انتظارهم ورأوا أنّه لم يصبه سوء تغيّروا وجعلوا يقولون إنه إله. وأكرمه حاكم الجزيرة بيليوس وقاده الى أبيه المريض فشفاه، وصنع الله على يده معجيزات كثيرة،وما زال المالطيّون الى يوم الناس هذا يعيّدون ذكرى الغرق والخلاص، وقد عيّنوا للذكرى البهيجة اليوم العاشر من شباط.ولا ريب ان تلك الرحلة البحرية أظهرت بطولة بولس المنبثقة من إيمانه واتحاده بالله، فاثبتت مدى الشأو الذي يستطيعه الرجل الصالح في فعل الخير، سواء أكان يزرعه في معبد، أم يبشّر به من على ثمة جبل، أو متن سفينة. وبعد ان قضّوا الشتاء في مالطة، أبحر قائد المئة والركاب جميعاً فأقلّتهم سفينة اسكندرية الى مرفأ ايطاليا. وها هو البرّ سيدوسه بولس وسيكون ذلك اليوم من أعظم الأيام التي شهدها تاريخ البشرية. ولخمسين حولاً خلَت، ولجت هذا الميناء سفينة الامبراطور أغسطس محتضراً، فاستقبله الشعب بالبخور والزهر،وكانت روما قد بدأت تحتضر باحتضاره. وها هوذا الآن يأتي بطل من أفسس، ملك الملوك مقيّداً فلا يشعر أحد بوجود ذلك الثائر الطرسوسي صاحب الرسالة إلى الرومانيين. ذلك أنّ الأسماع التي تفطن لانهيار عالم قديم كثيرة، ولكن ما أقلّ التي تنصت إلى نشوء عالم جديد، يبزع من فكرة جديدة. لقد باد الأباطرة الجبابرة أُولُو الحَول والطَول، وخُلّدت رسالة ذاك الهزيل العليل بولس، إذاً البقاء للروح والقلم..وأرست السفينة في مرفأ بوطيول. ولقد انشرح صدر بولس عندما وطِئت قدماه اليابسة،فتلقّاه وفد الكنيسة، وعلى رأسه أكيلا وبريسلا، واسكندر وريفوس ولدا سمعان القيرواني الذي أعان المعلّم على حمل صليبه.فإن الوجوه الحبيبة التي يلقاها المرء في الغربة هي أوطان من لحم ودم. ويّمم الوفد شطر عاصمة الشرق والغرب يومذاك، وقبل ان يبلغوا روما بليلة واحدة باتوا في آريسنا، ومرّ بولس في أرض اللاتيوم تلك الأرض(اللاتيوم هي المنطقة الوسطى الغربية من إيطاليا و التي أنشئت فيها روما و نمت لتكون عاصمة الإمبراطورية الرومانية) تلك الأرض المجدبة التي أنبتت عبقرية روما اللاتينية واندغمت بالينبوع اليوناني، وانصهرتا كلتاهما في المسيحية، فيالعظمة ذلك المثلث الذي بزغت منه حضارة الغرب: اللأغريق وروما والجليل، فتلاقى روح اليونان ، ونظام روما، ونور الشرق.. وقدّم قائد المئة بولس إلى قاضي التحقيق بيروس، وشهد له شهادة حسنة فسمح له أن يستأجر مكاناً له، وعُمل معاملة الأسير الممتاز. وأول ما خطر له دعوة اليهود إلى منزله، وكان يهود الشتات في روما يُعدّون بالألوف يقطنون الضواحي جرياً على عادتهم في الأنعزال، بيد أنهم كانوا على جانب عظيم من النفوذ في بلاط نيرون. لذلك استعجل بولس رؤساء مجامعهم، وارتكز في تبشيرهم على النبوآت وجادلهم طول النهار لكنهم ظلّوا مكابرين لا يرتضون بمسيحٍ مصلوب. وكان ذلك المجلس آخر العهد بالمفاوضة، فلقد كُتب عليهم المذلّة، وهكذا بقي اليهودي تائهاً، فذكّرهم بولس لدى خروجهم جاحدين نبؤة أشعيا فقال:(انطلق وقل لهؤلاء الشعب اسمعوا سماعاً ولا تفهموا، وانظروا نظراً ولا تعرفوا، غلظ قلب هذا الشعب وثقل سمعه، وأغمض عينيه لئلا يبصر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى).وكان في زوّاره الدائمين مرقس ولوقا. أما بطرس فكان غائباً عن روما في تلك الفترة، ولا نكير أنه سبق بولس اليها. وتنصّر على يده جمهور ليس بالقليل. |
#2
|
||||
|
||||
هذا الموضوع لا يقدّر بثمن لأهميته التاريخية للفكر المسيحي و كيفية انتشاره و تثبيته في الكثير من بلاد العالم. أشكرك من أعواق قلبي يا أستاذ نعمان. لقد قمت بتثبيت هذا القسم أيضا. كل عام و أنت بخير و سلام محبة
|
#3
|
|||
|
|||
استاذنا الجليل فؤاد دُمت سالماً..
مرورك الكريم يبعث في النفس علامات الفرح.. فشكراً لمرورك وتعليقك الجميل.. مع مودتي وتقديري |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|