Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الأزخيني > ازخ تركيا > شخصيات و رجالات

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-06-2020, 05:00 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,567
افتراضي بهنان يعقوب صارة (قوقو) بقلم/ فؤاد زاديكى

بهنان يعقوب صارة

(قوقو)
بقلم/ فؤاد زاديكى
في حياة آزخ رجالات وشخصيّات تركوا بصمةً من نوعٍ ما على الحياة سواءً في آزخ أو ديريك أو القامشلي أو غيرها من المدن والدول التي انتشروا فيها بسبب الضغوطات الهائلة التي مُورست عليهم والتعدّيات المُجحفة التي لا حصر لها وجميعها كانت تهدف إلى اقتلاع هذا الشّعب من أرضه وجذوره وقد تحقّق ذلك, فاليوم أصبحت آزخ خاليةً خاويةً من سكّانها الأصليين أصحاب الأرض والمقدّسات إلاّ قلّة قليلة قامت بالعودة إلى آزخ لتُعيد فيها دورة الحياة من جديد وهذا حصل أيضًا في بعض البلدات والقرى السريانيّة المنتشرة في مناطق طور عبدين إذ عادت بعض الأسر إلى بيوتها وأراضيها لتبدأ رحلة جديدة من الحياة وهذا ما يبشّر بخير..

نتناول اليوم سيرة حياة رجلٍ من رجال آزخ الغيارى والمحبّين لنضيفها إلى سجلّ الرجالات والشخصيّات, التي أحبّت آزخ وقدّمت لها ما يجب من المحبة والتكريم والعمل الجادّ والدؤوب. إنّه الصديق, وأقول الصديق على الرغم من فَارِق السنّ الكبير بيننا فهو يزيد عن إثنين وعشرين عامًا, إلّا أنّها حقيقة حيث كانت تجمعني به صداقة بحكم اهتمام كلينا بتراث و تاريخ بلدة آزخ.
قَدِمَت أسرة الفقيد من بلدة عرابان (المسمّاة اليوم "تل عجاجة" أو شاديكاني (خلال الحكم الآشوري) كانت إحدى أهم المدن الآشورية».تقع جنوبيالحسكة، إحدى المراكز المهمة للمملكة الميتانية ثم أصبحت مركزاً حدودياً فاصلاً بين إمبراطوريتى الروم والفرس. وتشير النصوص المسمارية إلى أن هذا التل يعرف باسم مدينة "شاديكانى,Şadîkanî". ويضم التل آثار أهم مدينة من مدن حوض الخابور في العصر العباسي – المصدر الموسوعة العربية) إلى آزخ وسكنت فيها. وُلِدَ المرحوم (بهنان كبريئيل يعقوب صارة) في آزخ سنة 1927م. عاشَ فيها طفولته فكانت آزخ ملعبًا لهذه الطفولة وذكرياتها شأنه شأن معظم أبناء جيله من الذكور الذين كانوا يسرحون ويمرحون ويلهون في ربوع آزخ الحبيبة. عندما بلغ من العمر 17 عامًا وهناك من يقول 15 نزح إلى قرية حياكة (قرية سورية تتبع ناحية مركز المالكية في منطقة المالكية التابعة لمحافظة الحسكة في أقصى شمال شرق سورية. تقع على بعد 11 كم غرب مدينة المالكية و3 كم جنوب الحدود التركية. تقع على الطرف الشمالي الغربي لسد المالكية) وكان أخواه (يعقوب) والد اسحق صهر مثلث الرحمات المطران برنابا و(إبراهيم) والد الفنّان الصديق كابي سارة, اللذان كانا سبقاه إلى القدوم لسورية والسّكن في قرية حياكة حيث سَجّلا نَفسيهما عسكرًا فرنساويًّا (گَرْدموبيل).
ظلّ المرحوم (بهنان صارة) في قرية حياكة سنةً كاملةً ثمّ قَدِمَ إلى ديريك ليسكن في دار جدّه التي كان يقيم فيها أخوه (يعقوب صارة). عَمِلَ أول الأمر في صناعة الجُومِهْ (الحياكة) وهي صناعة السجّاد بالطريقة اليدويّة, ( يبدو أنّه تعلّمها من البيت فهي كانت مهنة أجداده في آزخ حيث كان لديهم معمل لحياكة الجومِهْ بدليل أنّ جميع أبناء سارة كانوا يجيدون هذه الصنعة اليدوية ورأيت بعيني لدى زياراتي المتكررة إلى بيت العم يعقوب سارة عدّة الجومِه في إحدى الغرف التي كانت مخصصة لعمل الجومِهْ ) خلال فترة إقامته في قرية حياكة لأنّها كانت هي الأخرى مشهورة بصناعة الجومِهْ (البسط) بطريق حياكتها ومن هنا أخذت حياكة اسمها. عمل فترة إلى جانب أخيه يعقوب في حياكة الجومِه حيث كان يتمّ بيعها في القرى المجاورة لديريك.
أراد أخوه الأكبر (يعقوب) أن يُزَوِّجه من إحدى الفتيات لكنّه لم يقبل بها على الرّغم من جمالها البارع وفي هذه الفترة غادرت الجيوش الفرنسية سورية إلى لبنان أي بحدود العام 1946 م. كان في هذه الفترة تعلّم على يدي القس يوسف والد المطران برنابا.

كان المرحوم صغير السنّ لهذا لم يتقدم بطلب انتساب إلى الجيش الفرنسي بل أن أخواه سجّلاه في الهجّانة بعد تزوير شهادة ميلاده كي يتمّ قبوله (حرس الحدود) لهذا عندما غادرت فرنسا سورية إلى لبنان انتقل هو الآخر إلى لبنان مع أخويه يعقوب وإبراهيم اللذين كانا عسكرًا فرنساويًّا, مثل كثيرين من أبناء شعبنا فمنهم من بقي في لبنان (على سبيل المثال عمي مراد زاديكى و غيره) ومنهم من عاد إلى سورية (وهم الأغلبية) ومنهم مَن سافر مع فرنسا عندما غادرت لبنان (ومنهم عائلة حنا حنّوش و ناصر باشا الذي انتقل إلى مرسيليا سنة 1944 م وغيرهم). وفي لبنان عمل في صناعة تكسير الحجارة لإعدادها لبناء البيوت وغيره. أمضى في هذه المهنة مدّةً من الزّمن كان سعيدًا بممارسة هذه المهنة وله ذكريات طيّبة في تلك الفترة نشأت له علاقات مع أُناس جُدُد تعرّف عليهم بفعل المهنة, كانت هذه المهنة مربحة على الرّغم من كونها شاقّة تحتاج لمجهود عضلي كبير ولقوّة بدنية.
في هذه الفترة وفي لبنان تمّ إطلاق لقب (قوقو) عليه وقصة هذا اللقب نرويها كما رواها لنا المرحوم (سرجان بهنام كبرو جمعة) وهو من أخوال المرحوم (بهنان) كنت قمت بزيارته مع الصديق (كريم متّو) لغاية الحصول على صورة شخصية منه (كان المطران يوحنا إبراهيم مطران أبرشية حلب طلب صورًا لرجال و نساء آزخيين من الصديق كريم متو الذي كان يدرس وقتها في حلب فقمنا معًا بتلك المهمة في ديريك) ولسؤاله عن بعض الأمور التي تخصّ آزخ وشعبها وهو كان على علمٍ ودراية كبيرة بأمور آزخ وأصلهم من قرية مدّو هاجروا إلى آزخ وسكنوا فيها إلى النهاية حيث غادروا منها إلى ديريك.

حدّثني (سرجان بهنام) بخصوص لقب قوقو وكيف أتى هذا اللقب فقال: أيّام الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان وأثناء مغادرة فرنسا سورية لتستقرّ في لبنان كان المرحوم (بهنان) مسجّلًا كعنصر هجّانة فذهب مع الفرنسيين إلى لبنان برفقة أخويه يعقوب وإبراهيم وهناك عمل في مهنة تكسير الحجارة (الحَجير). كان المرحوم بفعل قوّته البدنية وضخامة جسمه قادرًا على تَكسير (كَسْر) كميّات كبيرة من الحجارة بخلاف زملائه العاملين معه فهم لم يكونوا قادرين على منافسته أو مضاهاته لذلك كان انتاجهم أقلّ من انتاجه ممّا أثار غيرة وحسدًا في قلوبهم وكراهية له فأرادوا التخلّص منه كي لا يتسبّب بقطع أرزاقهم. قالوا إنْ هو استمرّ على ما هو عليه الان وبشكل دائم فإنّه سينهي العمل بكل الحجارة في مدة قصيرة وبهذا لن يبقى لنا عمل.
على أثر ذلك نشب خلاف كبير بينه وبين العمّال الآخرين وتأزّم الموقف ممّا حدا بهم إلى الهجوم عليه في محاولة لكسر العظم كما يُقال. قيل إنّه وبمفرده استطاع أن يجرح 40 عاملًا منهم بالبير (الرفش) في هذا النّزاع, فقدّموا شكوى بحقّه وكان من الممكن أن يتمّ الحكم عليه بالإعدام نظرًا لحساسية الموقف الأمني في البلد. حين سُئلَ عن أهله قيل (سرجان بهنام) فتمّ استدعاء (سرجان بهنام) الذي شرح بالتفصيل الموقف كيف جرى وماذا كانت الدوافع وظنّ الحاكم بادئ الأمر بأن (بهنان) هذا رجلٌ مسلم.
أثناء الاقتتال صادف وجود امرأة أزخينيّة في المكان تعرف بيت (صارة) جيّدًا ورأت كلّ ما جرى فقالت بلهجتها الأزخينيّة:" يابو هَدولْ بيت صارة نِاس مِيتيقْ عَلَيِنْ. يِژْبَونْ حِنْطِةْ القوقو" ما ترجمته "يا عزيزي أبناء صارة لا أحد يستطيع مواجهتهم والتغلّب عليهم فهم يشبهون حنطة القوقو" ومن المعروف أنّ حنطة القوقو نوع من أنواع الحنطة (القمح) عرفه أهل آزخ بحيث كان معروفًا بأفضليّة انتاجه كمًّا وحجمًا. حبّته كبيرة الحجم.
بعد ذلك انتقل (بهنان) إلى عمل آخر كان في مزرعة لتربية الماشية والخنازير وبعمله هذا كان يساهم في بعض الدعم المادّي للأسرة, كان عمله يشمل حراسة البقر والخنازير في الليل وفي النّهار جمع الفواكه لإرسالها بقصد البيع. وبسبب عمله في هذه المزرعة فهو كان يأتي بالرزّ والبطاطا والفواكه واللبن بجميع مشتقّاته.

بعد عودته من لبنان واستقراره في ديريك اكتشف ابن اخته ملفونو (لحدو اسحق) فيه موهبة كبيرة فأعطاه كتبًا لجبران وأمدّه بكلّ أساليب المعرفة والثقافة والتعلّم وعلى يديه تعلّم اللغة السّريانيّة ثمّ اشترى إنجيلًا باللغة السّريانيّة ليزداد علمًا بهذه اللغة, والتي أحبّها ثمّ تزوّج من هندى بولص قس لحدو الحياكي.
تعلّم قيادة السيارة مع المرحوم (جرجيس القس كبرو جمعة) ثمّ عمل بعد ذلك في مصلحة (عادل مكارم) في منطقة الردّ (الواقعة في جنوب الحسكة، بين الحسكة وتل كوجك) وكان المرحوم صاحب أوّل خطّ فلاحي مستقيم باعتراف العاملين معه وكان السيد (عادل مكارم) هذا قوميًّا سوريًّا. كان المرحوم على علاقة قويّة ومتينة مع (حنّا كوركيس شيعا) و(ملكي عيسى ورده) عرضا عليه أن ينتمي إلى صفوف الحزب الشيوعي السوري واعتناق فكرهما غير أنّه رفض ذلك ولكنّه ظلّ صديقًا لهما مع العلم أنّه تأثّر أشدّ التأثر بالفكر الشيوعي ولو لم يقع تحت تأثره بالفكر الشيوعي لصار من جماعة القوميين السوريين على يدي (عادل مكارم) الذي تتلمذ على يديه وعندما عجز عادل عن استقطاب (بهنان) للفكر القومي سلّم المصلحة للمرحوم (كبرو كوركيس شرفو) وبقيت له المصلحة بعد رحيل (عادل مكارم).
عمل (بهنان) بعد ذلك عند السيّد (صاموئيل غطّاس) وهو مزارع من حلب كان قدم إلى الجزيرة السوريّة للاستثمار في أراضيها البكر ثمّ عمل بعد ذلك مع بيت (إبلحد بازو) وصار معه حادث البيك آب مع بيت (عبد الغني قدري) وقد وُضعتْ كلّ المسؤولية عليه فدفع جميع المصاريف المترتّبة عن تكاليف العلاج. وفي الوقت الذي تمّ فيه الاستقلال الوطني كان مختار ديريك المرحوم (كبرو الحكيم) وكان من الكتلة الوطنيّة وقعت أحداث قرية قضاء رجب (قَزَهْ رَجَبْ) سنة 1941 م
بعد ذلك بحوالي خمس سنوات حاول بعض الأكراد المتعصّبين كسر عين هلازخ بالانتقام منهم لحادثة قضاء رجب حيث قام المدعو (حميد) بضرب (إبلحد إيليا) أبو فؤاد, فضربه إبلحد (عبد الأحد) هو الآخر وكان المقصود من هذه المسرحية أن يتمّ سوق (إبلحد إيليا) إلى السّراي لإهانته وضربه في محاولة انتقاميّة تأديبيّة كمن يقول (نحنُ هنا إيّاكم أن تفعلوا ما لا رغبةَ لنا به أو يجعلكم تشعرون بوجودكم و حضوركم المعنوي هنا) لكنّ (كبرو الحكيم) أعطى أمرًا لكلّ هلازخ بالنّزول إلى الشّارع بشكل منظّم لإنقاذ (إبلحد إيليا) وعدم السّماح بإهانته أو إيذائه, بالصّدفة وعند (فرن آرام) حاول الشّرطي إجبار (إبلحد إيليا) على السّير أمامه إلى المخفر مُخبِرًا إيّاه أنّه يحمل معه أمرًا بإطلاق النّار عليه إنْ هو لم يَمْتَثِلْ لأوامره ويرفض الذهاب معه إلى المخفر, أو إذا حاول الفرار.
رأى (صومى صولكرين) هذا الموقف فحَمّس الرّجال وما كان من (بهنان صارة) هذا إلّا أن انقضّ على الشّرطي فأخذ منه البارودة ثم أوسعه ضربًا مُبَرّحًا حتى تمّ كسر البارودة على رأسه وفرّ من وجه الشّرطة التي بدأتْ بمطاردته وملاحقته بقصد إلقاء القبض عليه. ظلّ مختفيًا عن الأنظار لمدّة ستّة أيّام. قدم قائد الفصيل إلى (موسى ملكي) و (كبرو الحكيم) يطلب منهما تسليم (بهنان) لكنّهما تَدَخَّلا عليهِ وطالباه بالمصالحة فتمّت المصالحة وانتهى الموضوع.
عاد المرحوم من جديد لمزاولة مهنة السّواقة (الشوفيريّهْ) إلى أن جاء الوقت الذي لم يعد هذا العمل يعطي كفايته كمردود مادّي مما اضطّره إلى البحث عن عمل آخر فاضطر إلى العمل عند الشيخ (عبد الرزّاق العيادي) في قرية الصالحية بقي هناك لمدة سنتين بعدها عاد وسكن لمدة عام في دار أخته سيدى أم ملفونو (لحدو اسحق) ثمّ توظّفَ بعد ذلك مستخدمًا (آذنًا) في المدارس الحكوميّة.
عمل في الزراعة كسائق على جرار (تراكتور) أخيه (إبراهيم) وكان إبراهيم يملك دكانًا في ديريك وإلى جانب ذلك كان يقوم بشراء المواسم الزراعية على طريقة دفع المصاري لقاء بذار كذا كيس من الحنطة (لقاء استثمار الموسم) وعمل لمدة سنتين مع المرحوم شكرو مرقوز في هذا العمل. لم يستطعْ بهنان إكمال داره التي كان بدأ ببنائها, لعدم توفّر المال فأسعفه صديقه السيد (كبرو سليمان ورده) بالمال وقد أعطاه في ذلك الوقت (300) ليرة سورية أتمّ بها بناء داره. دفعها له على أقساط سهلة ومريحة, وكان في تلك الأثناء قد عرض عليه أخوه إبراهيم أن يأتي هو و عائلته ليسكنوا في واحدة من غرفتين في بيته فجاء وسكن في تلك الغرفة أي في بيت أخيه إبراهيم صار له من الأولاد في دار أخيه سمعان و أفرام وقد أعانه أخوه إبراهيم في عملية إتمام بناء داره. كانت مدرسة (ناظم الطبقجلي) أوّل مدرسة عمل فيها في كل هذه المدة كان ينظم بعض الأهازيج الغنائية والأشعار في مناسبات مختلفة باللهجة الأزخينية والعاميّة العربيّة نذكر منها (كزّاب كزّاب) وغيرها.
كان المرحوم يرافق القس (كبرو جمعة) في أكثر تجواله ومعظم رحلاته بين القرى لزيارة العائلات المسيحيّة فيها لتفقد شؤونها وللصلاة.
انضمّ إلى صفوف (حزب البعث) في سنة (1963) م عقب ثورة الثامن من آذار وبعد حركة الثالث والعشرين من شباط عام 1966م ترك التنظيم وابتعد عن النشاط السياسي منصرفًا ومتفرّغًا لتربية أولاده والاهتمام بشؤون عائلته. وهناك حادثة وقعت معه و مع كلّ من السيدين المعلم (ملكي عيسى وردة) والأستاذ (داؤود لحدو) أبو مازن في بداية الستينيّات من القرن الماضي أنّهم كانوا في إحدى المرّات مجتمعين في قرية (كرِهْ كَرا) خربة عدنان وهم يتحدثون بشأن الأمة السريانية وقضيتها من منطلق آثوري وكيف يمكن لهم أن يحققوا هدفَ التحرير وكانت مثل هذه الاجتماعات تجري على الدوام في أمكنة مختلفة لكنّ إخباريّة كانت وصلت إلى (المكتب الثاني) وهو الأمن العام في ذلك الوقت فتمّت مداهمتهم وسيقوا إلى سجن المالكيّة وهناك تمّ الاعتداء عليهم بالضرب وتوجيه تهمة التآمر على أمن البلد فنفى الثلاثة هذه التهمة وقالوا إنّهم كانوا معزومين لدى أحد الأصدقاء بدليل وجود الطعام والشراب والمازة والعرق لكنّ ذلك لم يقنع رجال الأمن السوري فتمّ ضرب كلّ من المعلمين ملكي عيسى و داؤود لحدو بينما المرحوم بهنان قوقو كان ضخم الجثة ذا طولٍ لم يتمكن الشرطي المكلّف بضربهم من الوصول إليه فلم ينل من الضرب شيئًا لكنّ الجميع أُهينوا وتمّ شتمهم. ومن المعروف أنّ المرحوم بهنان قوقو كان فنانًا قام بتمثيل بعض الأدوار في مسرحيات كانت تقام في ذلك الوقت على مسرح مُعَدّ في باحة كنيسة السريان وكان من الممثلين معه الياس عبدال وحنا شيعا وببّو الخيّاط وشمعون اسحق وغيرهم من شباب السريان.
ساهم في حلّ أكثر من قضيّة وحادثة وقعت بين بعض الأسر في ديريك فهو كان بطبعه ميّالًا إلى روح المسالمة والمهادنة والسلام وفي إحدى المرّات وعلى إثر خلاف بسيط وسوء تفاهم نشب بين أخيه إبراهيم وزوجته سارة بسبب سلة عنب قام بإصلاح الأمر بينهما وساهم في إعادة الهدوء إليهما ويشهد على هذه الحادثة الصديق الفنان الأستاذ كابي سارة الذي أفادني بهذه المعلومة كما أنّه أفادني كثيرًا بأن ألقى الضوء على نقاط باهتة وغير دقيقة وضعيفة الرواية في بعض جوانب هذه السيرة لحياة عمه وله الفضل الأكبر في إعادة تدقيق الموضوع واستبعاد بعض الأفكار والروايات غير الدقيقة لتكون المعلومة صحيحة لأنّ خوض غمار هكذا مشروع لا تتوفّر له الدلائل الكتابية والمراجع المدوّنة يبقى النقل و التناقل هو سيّد الموقف لهذا قد تكون هناك بعض الهنّات و الهفوات وآمل أن يكون الموضوع قد صار الآن على السكّة الصحيحة وبهذه المناسبة فإنّي أعتذر من جميع الأشخاص الذين تسبب لهم هذا المقال بأي غبن أو شعور بالضيق أو بعدم الرضى فجلّ من لا يُخطئ ولكوني كنتُ اعتمدت في روايتي لقصة حياة المرحوم على مصدر واحد وحيد لم يكن دقيقًا بالمعلومات التي أفادني بها. كما كانت للمرحوم علاقات قويّة مع كلٍّ من الأستاذ (شكري جرموكلي) والملفونو (يوحانون قاشيشو) و (عيسى طبّاخ) و( كبريئيل أسعد).

كان المرحوم آثوريًّا من الصميم وقد تتلمذ على يديه كلٌّ من (جميل يعقوب كبرِهْ) و(عبد المسيح قرياقس) و(اسطيفان عبد النور) و(الياس عبد الأحد) وغيرهم. كان يعقد لهم اجتماعات بين الكروم حتّى أصبحت كلمة الكيلِّهْ (كِيلِّكِهْ) شعارًا لهم وكانوا يعنون بها أنّهم سوف يُحدّدون حدود آزخ يوم تحريرها وتتحرّر كلّ بلاد ما بين النّهرين أرض الآباء والأجداد بالكيلّهْ. والكِيلّهْ كومة حجارة كإشارة تفصل بين الكروم.

كانت تربطني بالمرحوم علاقة صداقة قويّة لكوننا كنّا نشترك معًا بهمٍّ واحد وهو تدوين تاريخ آزخ, هذه البلدة الصامدة والمناضلة والتي تستحقّ من كلّ أبنائها كلّ تقدير ومحبة وتضحية. كانت له بعض المحاولات في إعادة بعض الكلمات الأزخينية إلى مصادرها وكلّما كنت التقي به في الطريق كان حديثنا يدور حول آزخ واللهجة الأزخينية, كما كانت له محاولات كتابيّة تهتمّ بتاريخ آزخ.

وافته المنيّة يوم 8/10/1982 وكان الطقس رديئًا شاركنا في جنازته وعملية الدّفن كتبت بعد ذلك كرّاسًا صغيرًا أسميته (غروب شمس) تحدثت فيه عن مشاعري بهذا اليوم الأليم وأنا أخسر صديقًا كان وفيًّا لآزخ وأبناء طائفته كما كان محبوبًا من جميع معارفه وأصدقائه وكلّ الذين تعاملوا معه في الحياة الاجتماعية علمت أنّه كان في الأمسية التي انتقل فيها إلى جوار ربّه يتابع على التلفزيون موضوع الهيكل العظمي للجسم البشري فكانت موتته هادئة.
أشرقتْ الشّمس إشراقتها الحزينة هذا النّهار فيما كانت الأرضُ لا تزال طينيّةً جرّاء سقوط أمطارٍ غزيرةٍ في الأيّام القليلة الماضية وكأنّما أوحى هذا التناقض العفوي إلى النّاس في هذه البلدة (ديريك) أنّ أمرًا جللًا سيحدث وأنّ غمامةَ حزنٍ عميقة ستلفّ أرجاء النفوس والقلوب بحصول مفاجأةٍ لم تكنْ متوقّعة, وهذا ما حصل بالفعل فقد توفي الصديق (بهنان) في الساعات الأولى من نهار هذا اليوم الجمعة الواقع في 8/10/1982 م.
رحلَ رجلٌ من خِيرة رجال البلدة (بهنان يعقوب صارة) المعروف بأبي سمعان والملقّب بِ(قوقو) أجل لقد مات وكان موته مفاجأةً لأسرته وأهله وأصدقائه ومعارفه خصوصًا الزّوجة التي اعتادت كلّ صباحٍ وفي حوالي الساعة السادسة إيقاظه من نومه كي يذهب للتسوّق ويأتي بما تحتاجه الأسرة من طعام وغيره من الحاجيات قبل ذهابه إلى العمل, وكالعادة جاءت إليه زوجه محاولةً إيقاظه لكنّه كان في هدوءٍ وسكينةٍ دون أن يستجيب لندائها فمدّتْ يدها لترفع عنه اللحاف محاولة إيقاظه بيدها ولكنّ تلك المحاولة لم تُفلحْ هي الأخرى لقد كان ذلك الجسد الفارع و الممتلئ حيويّةً ونشاطًا ووسامةً بنظرتِه المرحة لا حياةَ فيه ولا حركة.
"أبو سمعان قُومْ" "قَي مو تقومْ"؟ هذا ما نادته به أم سمعان وعندما لم تشعرْ بأي تجاوب منه, انتابها شعور الخوف و سيطر عليها القلق والحيرة والارتباك متسائلةً بينها و بين نفسها "هل يُمكن أن يكون حصل له شيءٌ ما"؟ لكنّها سرعان ما أفاقت من دهشتها عن واقع أكثر حزنًا و المًا ومرارةً, لقد مات أبو سمعان.
صرخت المسكينة مستنجدةً بأولادها وجيرانها فأسرعَ أولادها إلى الطبيب ليأتوا به, وهذا ما حصل لقد جاء الطبيب وأعلن أنّ الوفاة تمّت بحدود الساعة الرّابعة صباحًا وأنْ لا فائدة من أي إجراء آخر غير الإقرار بإرادة الربّ والقبول بها. شعرت زوجه بالترمّل وأولاده باليُتم وأهله وأصدقاؤه ومعارفه بفقدانهم له وبخسارة كبيرة. بين مُصَدّقٍ ومُكَذِّب شاع الخبرُ بسرعةٍ مذهلةٍ في ديريك (المالكية) فتوافدت الجموعُ إلى دار الفقيد لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه الطاهر المُمَدَّد على الأرض بهدوءٍ وسلام ودعةٍ واطمئنان.
كيف تموت يا أبا سمعان وكنتَ البارحة تسهر معنا وأنت كعادتك تُطلق قذائف نكاتك بمرح وفرح وسرور وأنت تتابع البرنامج التلفزيوني (مِنْ الألِف إلى الياء) لمعدّه ومقدّمه (موفّق الخاني)؟ كانت الحلقة تتحدّث عن العظام في جسم الإنسان وتكوين الهيكل العظمي. كنت تتأمّل هذه الصّور ولم يخطر ببالنا كساهين عمّا سيحصل بأنّ القدرَ ومشيئة الرّبّ اختارت لك هذه النهاية الهادئة وكأنّ قائلًا يقول لك: اُنْظُرْ إلى هيكلك العظمي كيف سيصير إليه غدًا. حقًّا كانت نهاية هادئةً في عالم صاخِب.
قال رفاقك في العمل بأنّك كنتَ نشيطًا أثناء تأديتك لعملك, والبارحة بالتحديد كنتَ تقوم بتنظيف وكنْس صفوفك في المدرسة, وكنت تتجوّل في الباحة مُحَدِّثًا وشارِحًا وكم كنتَ قادرًا على سَرِقةِ الوقت لتجعل مشاركك بالحديث لا يشعر بمروره. إنّ كلماتك النّاعمة والرّقيقة كانت قريبةً من القلب والنّفس وابتسامتك البريئة كانت توحي بالثقة والفرح والسرور وتبعث على الشعور بالأمل. لقد عَرَفتُ مِنْ أُسرتك أنّك كنتَ تعاني مِن أعراض مرض (الرّبو) في الآونة الأخيرة, وأنّك ومنذ أسبوعٍ تتناول أدويةً لهذا المرض لكنّ أعراض الموت ما كانت ظاهرةً البتّة, ولا يمكن الحديث عن أمرٍ من هذا القبيل. لم تكن أحوالك الصحيّة سيّئةً تمرّ بحالٍ شديدة من المعاناة كما لم تشعر بأيّة انتكاسة أخرى لها علاقة بالصحة الجسديّة غير الذي ذكرناه. أجل كنت تتمتّع بصحّةٍ جيّدةٍ وعافيةٍ كذلك. كانت قامتك الممشوقة غصنًا فارعًا ذا رسوخٍ مشهودٍ لهُ في مشيتك. كنت ممتلئًا حيويّة وحركةً ونشاطًا, فلم تكنْ تعرف الكسل ولا الخمول أو التقاعس بل كنتَ في عطاء دائم وتضحية مستمرّة وجميع هذه الأمور جعلتك قادرًا على تربية أسرتك وأبنائك تربيةً سليمةً صحيحةً تعيش مع الربّ في حياتها اليوميّة وليس مستغربًا أن يكون أحدُ أبنائك الصديق (ميخائيل يعقوب) كاهنًا يقوم بعمله على أكمل وجه وهو يحمل الكثير من القيم الإنسانيّة التي غرستها في فكره وقلبه وعقله.
كانت زيارةُ الموت لك في غير أوانها لكنّها حكمة الربّ, فالموت لا يحسب حساب الأعمار ولا الأحوال ولا الأوضاع. إنّها سِنّةُ الحياة ومصير البشر في قدرهم مع الحياة. ما الذي كان يُمكنُ أن تقوله في وصيّتك الأخيرة لأولادك, وأعتقد بأنّ كثيرين مِنّا يعلمون ما كنتَ تريدُ قوله " أحبّائي . إنّ الحياةَ لن تدومَ لأحدٍ منكم, لذا عليكم أن تدافعوا عن وجودكم في هذه الحياة ليكونَ حَرثُكم جيّدًا وتربيتكم صالحةً حيثُ غِلالكم اليوم هي محاصيل أبنائكم غدًا.. لا تتوهّموا أو تَسْتَكبِروا.. لا تتجبّروا أو تتظاهروا بما ليس فيكم. أو تقوموا بأعمال لا تليق بكم فتسيء إلى الجنس البشري. أو تغفل حقيقة أنّ وجود الموت فكرةٌ أزليّة سرمديّة لا تنتهي صلاحيتها أبدًا. لا تبكوا عليّ طويلًا لأنّ هذا سيزيدني ألمًا وسيُغضبُ صاحبَ القرار وهو أبونا السماوي له كلّ المجد. ثِقوا بالربّ في جميع أفعالكم فهذا يُبعِدُ عنكم شعور الإحباط والوقوع في براثن اليأس القاتل أو القنوط الذي لا يدرك حقيقة الحياة. عليكم بأمّكم وأختكم عنايةً وحِرصًا وحُبًّا واحترامًا. عليكم بالتّسامح والذي هو ملح الحياة الإنسانية وبالتعاون والأخوّة. عليكم بزملائكم وأهلكم محبّةً وإخلاصًا وأمانةً ووفاءً واحترامًا. أمّا في ما يخصّ مال هذه الأرض فهو سيبقى للأرض ولا يأخذ أيُّ أحدٍ شيئًا منه معه أثناء رحيله ومغادرته. لا يجب أن تخرج أهمية المال عن دائرة الضرورة والحاجة كي لا يتحوّل إلى إله تعبدونه, فتفقدون الكثير من معالم ومعاني إنسانيّتكم"
لا أعتقد صديقي المحبّ (أبو سمعان) بأنّك كنت ستزيد على هذه الوصيّة شيئًا. لقد انهدّ أساس البيت واهتزّت أركان الأسرة لكنّ الربّ هو الكفيل بإعادة كلّ الأمور إلى نصابها فهو أدرى بحاجات البشر من درايتهم هم بها.
كنت تتحدّث مع هذا عن المدرسة ومع ذاك عن حياة آزخ وشعبها وعشائرها ومع ثالث عن اللغة السريانيّة ومحبّتك لها ومع رابع عن لهجة آزخ وكان لك بها باع طويلة وكلّك تعطّش إلى معرفة جديدة و معلومة لم تكن تعرفها فحبّك للمطالعة والحصول على المعرفة من مصادرها بالوقوف على أخبار الزمان القديم والأحداث الجارية, تلك التي كانت تعيش فيها بلدتنا الغالية (آزخ) كنت مناصرًا ومشجّعًا ومؤيّدًا بل أكثر من ذلك لقد كنتَ تعيش لها ومن أجلها تفديها بروحك ومالك وتعطيها من هذه الروح نبضًا جديدًا يكون به رجاء قيامتها.
لقد كنتَ ضليعًا في تاريخ آزخ وفي تراثها بل في فقه لهجتها إنْ صحّ القول, فما كانت لتفوت عليك واحدة من أبسط مفرداتها أو أصعبها. كنتَ تخطّط لمشروع كتابي كبير – كما كنتَ تقول لي دائمًا – ألا وهو جمع ما تستطيع من الكلمات الأزخينيّة في قاموس صغير, وكنتُ دومًا أشاركك هذا الرأي وأشجّعك عليه, وأعطيك بعض ما عندي من المعرفة والنّصح في هذه المفردة أو تلك فكما كنتُ أعطيك كنتُ أيضًا بدوري آخذُ منك إذ لا أحد يستطيع الادعاء بأنّه يملك المعرفة الكاملة والتّامّة بأيّ أمرٍ من أمور الحياة وخاصة بموضوع كهذا. إنّي كنتُ أتمنى من كلّ قلبي لو اجتمعنا معًا في عمل مشترك بهذا الخصوص, بحيث كنت ترسم و تخطّط بحسب رؤيتك ومساعيك وأنا الآخر كنت أفعل مثل ذلك بطريقتي الخاصة.
الاسم: بهنان
الأب: كبريئيل
الأم: مارتا
المواليد: آزخ 1927
الوفاة: ديريك 1982
بهذا يكون عمرك الحافل بالخير والزاخر بالعطاء خمسةً وخمسينَ ربيعًا.
الشباب المتدفّق بحيويّة وحياء الكلمة
الرّجولة الكامنة خلف تلك الشخصيّة الهادئة والمرحة والجذّابة
العطاء الذي كان دائمًا فيه
إنّ هذه الأمور مجتمعةً جعلتني أرثي لوضع أسرتك لأنّ رحيلك كان في غير أوانه ومغادرتك لنا في غير حينها وحسبانها, لكنّها مشيئةُ الربّ ولربّما تكون لنا بذلك حكمة.
أيّها الحبيبُ إلى نفسي. القريبُ من قلبي لقد فقدتُ فيك سندًا كبيرًا ومرجعًا لا يُعَوّض. بفقدك خسرتُ صديقًا نبيلًا ولبيبًا وحكيمًا. مهما حاولت الكلمات بلوغ التعبير فهي تبقى قاصرةً وعاجزةً عن أن تفيك حقّك أو تعطي وصفًا حقيقيًّا لِما كنتَ عليه.
لم تؤذِ أحدًا. لكنّك كنتَ القادر على الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم كالعادة ودائمًا. لم تجعل أحدًا يزعل منك أو يغضب فسبيل التسامح وسلوك السلام كان معروفًا عنك ومعهودًا بك. إنّ نعمة العفو والصّفح كانت لديك رصينة ثابتة تقول ما ترى الفائدةَ فيه وتبتعد عن إثارة المشاعر وإثباط الهمم.
صداقتك كانت صادقةً وأمانتك بالغة ما مِن شكّ فيها. روحك المرحة ستظلُّ تتحدّث بملامحها عن صفائها لأمد طويل وسيبقى الثنائي المرح (بهنان قوقو وبهنان گَلعو) الذي عرفته كلّ ديريك ولسنوات طويلة بما كانا يقومان به من مواقف ساخرة وأحداث مفاجئة لكما معًا أيّها البهنانان في كل كرم وبستان وحارة ومكان موقف مشهود وحدث فيه روح الدعابة والمرح والفرح. كيف ننسى (قصة المقلِه) و(قصة الخروف) و(قصةالكرم) وغيرها كثيرٌ جدًا. أعطيتَ الكثير وكان لديك الأكثر لتعطيه لولا قضاء الحياة وقدرها المحتوم على البشر.
ما زلتُ حتى الآن أتساءل عن تلك الأمور الكثيرة التي جعلتك قادرًا على خَلق أجواء المحبة والمرح والتفاؤل أينما تواجدت وحضرت. لم أتمكن من فهم تلك القوة السّحرية التي تحلّت بها شخصيتك وكانت مثار إعجاب كل رفاقك وأصدقائك وزملائك وهم أحبّوك لذلك لقد كنت تدخل إلى قلوبهم بلا استئذان وتخلق في نفوسهم لحظات سعادة ومسرة وهذه كانت مهارة نادرة لا يتقنها أيّ شخص.
إنّ العلاقة التي كانت تربطني بك كنت أرى نفسي من خلالها مشدودًا إلى التعلّق بك أكثر وأكثر, فالنّبرة القوية الواضحة والصافية والمنطق الغنيّ بمفعول الروح المتألقة المتجددة والعطاء الدائم والمستمر على وتيرة واحدة دون انكسار أو انحناء, جميع هذه الأمور والمواقف والحالات كانت بعض جوانب ذلك السّحر في شخصيتك وهو سحرٌ أخّاذ وجميلٌ ومؤثّر.
لقد متّ كجسدٍ فانٍ لكنّ الروح العظيمة, التي عرفناها فيك متألقة لم تمتْ بل هي أعيش معنا تجالسنا النّكتة والكلمة والتاريخ والموقف والحدث لتجلو كلّ إشكال وتُزيل كلّ إبهام. بما يخصّ موضوع آزخ وشأنها كدت تكون موسوعةً لم ألتقِ منازعًا لك سوى أخيك الأكبر العم (يعقوب صارة) فهو كان بحرًا من المعرفة والعلوم بكل أحداث آزخ والأمكنة والكروم وعنه أخذتُ أكثر معلوماتي عن آزخ رحمه الرب وأحسن إليه. بفقدك يا صديقي خسرنا مصدرًا معلوماتيًّا واسعًا عن لهجة آزخ وبعض جوانب تاريخها. كنتَ تريد أن تتأكّد من معاني الكلمات وصحّة بعض المعلومات وكلّك رغبة شديدة وشوق عظيم, كما كنتَ ترى في بعض الذي عندي من معلومات ضالتك المنشودة وكان التقاؤك بي أكثر الأوقات يُشبع لديك بعض تلك الدوافع والحاجة والفضول.
قلتَ لي ذاتَ مرّة إنّك جمعتَ الآلاف من الكلمات الأزخينيّة وإنّك تُريد الاستعانة بي من أجل تنسيق وترتيب وتدقيق تلك الكلمات على النهج القاموسي وقد أجبتك لذلك في كل مرة وأبديت كامل استعدادي لأن أتعاون معك وأقوم بمساعدتك في نشر ما تريد, وعرضت عليك كلّ معونتي وما لدي من معلومات. كان طموحك كبيرًا, كبر قلبك وأمانيك الكثيرة ومحبّتك لأبناء أمتك السريانيّة وللوطن, وكنت مثل كلّ أزخيني تعتبر أنّ بلدة آزخ جزءٌ لا يتجزأ من سورية الأم وطن السريان.
لم تتمكن من تحقيق أيّ شيء من طموحاتك الكتابيّة أو إشباع نهم جوعك الثقافي لأن الرّحيل كان في غير موعده جاء مباغتًا لك و لنا, لم تُمهلك الحياة من الوقت ما يجعلك قادرًا على تحقيق تلك الأماني والرغبات.
وكانت الخاتمة... ولم يكن الوداع لهذه الخاتمة من قبل مُشيّعيك إلّا نموذجًا حيًّا و صادقًا وكبيرًا عندما سار وراء نعشك الكثيرون منهم الأصدقاء والمعلمون والمدراء والشبيبة والطلاب والأهل وغيرهم. وصلنا بك إلى مقرّك الأبدي حيث جرت العادة, و هناك واريناك الثرى ونحن غير مُصدّقين ما حصل.. الدموع الغزيرة وهي تتساقط بلا انقطاع
العويل والندبة والنحيب والبكاء وأصوات الرّصاص الملعلع... القلوب المنشطرة حزنًا... جميع تلك المشاهد كانت خلف جنازتك ومصاحبةً لها وهي تشارك أهلك وأقربائك وأسرتك هذه الفاجعة وتواسيهم لأنّهم يعزّون عليها.
أخي وصديقي ومعلّمي ما الذي أستطيع قوله ووقعُ المصيبة أكبر من كلّ الأقوال والكلمات؟ ماذا يمكن لي فعلُه في حين أُحسّ أنّي فقدتُ أخًا غاليًا وصديقًا محبًّا حنونًا؟ إنّ الكلام لا يمكن له أن يصفَ الشّعور بعمق هذه الفاجعة الأليمة والمأساة الكبيرة. خير ما يمكن أنْ نقدّمه لك كدليل محبّتنا واحترامنا هو الا ننساك. الا ننسى أنّك كنتَ في يومٍ من الأيام المشعل الذي أنار دربًا نحو الخير والمعرفة والحق.
ألقى المدرّس الأستاذ (يوسف حنّا) وهو من قرية الجسر (پِرِّكِهْ) كلمةً بليغةً تحدّث فيها عن المأساة والفاجعة معدّدًا مناقب الفقيد الغالي مُترجمًا حياة الجدّ والنضال والنشاط والعطاء التي كان عليها ومُثنيًا على الروح العظيمة التي كان يتحلّى بها وهو يُعربُ عن شعور الألم والمرارة التي أحسسناها جميعًا وتمنّى في النّهاية لآل الفقيد الصّبر والسلوان راجيًا من الربّ العليّ القدير أن يُسكنه فسيح جناته بين الأبرار والصِّدّيقين. وكانت الكلمة باسم (الشّبيبة), فيما ألقى الصديق الأستاذ (جوزيف ببّو) كلمةً ارتجاليّةً تحدّث فيها عن صفات وأخلاق ومكانة الفقيد في بلدة ديريك وكانت هذه الكلمة باسم الشعب (أي المواطنين العاديين). ثمّ اختتم الصديق المعلم (توما بيطار) حفل التأبين فألقى قصيدة شعريّةً أشاد فيها بالرّوح العالية وبالكفاح الدؤوب اللذين كان يتحلّى بهما الفقيد كما جاء على ذكر بعض اهتمامات الفقيد بالأمور التي كان كرّس حياته من أجلها فحال الموت بينه وبين تحقيق تلك الرغبات والأماني, حيث أخمد أنفاسه لكنّه لم يستطع أن يمحو من ذاكرة النّاس ومخيّلتهم تلك الصورة الجميلة التي عرفها الكلّ عن الفقيد وكذلك عن روحه المرحة وابتسامته التي لم تكنْ لتفارقه, ولا تلك النّبرة العميقة وذلك الشّموخ المتأصّل بالأرض وحبّ الأرض.
كان قَرْعُ النّاقوس هادئًا حزينًا ينساب صوته كلحنٍ سرمديّ دائم برنّاتٍ تخفقُ معها القلوب وتعيشُ الأفكار في رحاب التّحليق السماوي فترى هذه النّفس تفكّر بما اقترفته من آثامٍ وما ارتكبته من ذنوب وترى تلك النّفس الأخرى تفكّر في عظمةِ هذا الكون وإبداع الخالق سبحانه وتعالى. أجل كان النّاقوسُ, الذي أحبّه الفقيد وكان يسمّيه في قاموسه على غرار كلّ أهل آزخ (ناقوز) بلكنةٍ أزخينيّة صرفة. إنّ هذه الدقّات, التي كانت تصدر عنه جعلتنا نحلّق في فضاء الإبداع الإلهي غارقين في الحكمة المتمثّلة في غموضِ هذا الكون وأسراره.
لقد رحلتَ يا عزيزي وكان لك امتياز السّبق في ذلك لتنتقل إلى الدار الآخرة تاركًا إيّانا في هذه الدّنيا ونحن نتخبّط, قد نكون قادرين على فعل شيءٍ وقد لا نكون. إنّ هذه القدرة أو عدم القدرة تلك إنّما تحدّدها الظروف من جهة والامكانيات المتوفرة لتحقيق ذلك من جهةٍ أخرى, وقبل هذه وتلك تكون مشيئة الربّ هي القادرة على كلّ شيء والتي تحدّد المسار وتعطي القرار.
قد يقرأ كلماتي هذه كثيرون ربّما قبل موتي أو بعده وسيقولون إنّ (فؤادًا) تحدّث عنك وكأنّه يتحدّث عن نفسه وعن آخرين فمصير البشريّة واحدٌ وإنِ اختلفت الأحوال والأوضاع والطرق والأساليب فجميع الدروب تسير إلى الطاحون. هنيئًا لمنِ استطاعَ الانتصار لإرادة الخير فترك هذا العالم الفاني والتحق بالأخدار السماوية, لكنّ هذا ليس بإرادة البشر. أجل ليس بقرارنا ولا بإرادتنا وإلّا فإنّ ذلك سيكون فيه تعدٍّ على مشيئة الرب وإرادته. لسنا مخيّرين بهذا بل مسيّرين بحكم الخليقة والخالق.
كلمةٌ أخيرة يمكن لي قولُها في رحيل هذا الرجل الشهم والنبيل وأرى ذلك من واجبي حيث أقوم بتدوين هذه الكلمات في سفر الحياة الأنيّة إنّ المرحوم كانَ إنسانيًّا طيّبًا, صادقًا, مخلصًا, غيورًا, مؤمنًا, وفيًّا أُدخلَ في جملة هذه الصفات صفة الحرص على أعماله التي كان عليها و أعتقد بأنّنا جميعًا كأبناء آدم نحمل في قرارة أنفسنا مثل هذه الشعور بشكلّ أو بآخر, فالكلّ يسعى لأن يكون الأفضل, لهذا يحافظ على بعض ما لديه ويحفظه كي يشعر بشخصيته. أجل إنّ قليلين جدًّا مَنْ يتجرّدون من هذه الصفة خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بناحية ثقافية أقول هذا وأعي تمامًا ما أقوله, وكبرهان على ذلك أنّ أحد الأشخاص قدم إليّ في البيت ذات يوم يطلب منّي بعض ما لدي من معلومات عن آزخ بحجة أنّه يرغب بتقديم أطروحة عن اللهجة الأزخينيّة وحين سألني ما الذي لديك ذكرت له المخطوطات التي كنت أعمل عليها وحين ذكرت له أسم أحد تلك المخطوطات وهو بعنوان (پَزيريكْ مِنْ طاڤات الشلِّيِّهْ في ذِكِر الامثال الآزخيِّهْ) نادى بأعلى صوته أي هادا أريدو, فأجبته لا والله موعطيك هازا لأنّي أنا كمان عم أكتب و بدّي أنشر. القصد أنّ سلوكي هذا كان فيه الرغبة في الحرص على ما جمعته طيلة أعوام طويلة من خلال البحث والسؤال والتدقيق وهذه طبيعة البشر.
في ذمّة الخلود أيّها الرّجل المحب والمسالم والطيّب. لم تمت في خاطرنا ولن تموت ولي معك من الذكريات ما يجعلني أكتب عنك الكثير وها إنّي اليوم أفي ببعض هذا النذر لأقدّم نبذة قصيرة عن حياتك لمن يرغب بالمعرفة والتعرّف على شخصك المحبوب كوفاء بالجميل.
لا أصدّق أنّك متّ لكنّي مُلزم بقبول ذلك والتأكيد عليه فالموت سلطان عظيم على جنسنا البشريّ الضعيف وسوف نستسلم له شئنا ذلك أم أبينا, فما باليد حيلة ومهما قاومنا فهو القادر على التغلّب علينا وبسط سلطانه و إرادته. فقط شخصٌ واحدٌ وحيد كان قادرًا على قهر الموت والتغلّب عليه إنّه ربّ المجد يسوع المسيح الذي مات من أجل خطايانا ثم انتصر على الموت بسلطانه وقوته ليكون بذلك فداء لنا وخلاصًا أكيدًا.
ارجعي أيّتها النفس المطمئنة إلى ربّك راضيةً مرضيّة وقد قال الربّ يسوع "مَنْ آمنَ بي وإنْ مات فسيحيا على رجاء القيامة" أستودعك الله وأطلب من ربّي ألّا يمنحني في شأنك نعمةَ النّسيان لأنّي لا أريدها. فقد كنتَ عزيزًا كبيرًا في نظري وستظلّ ذكراك على ما كانتَ عليه. مات شخصان في المالكيّة وكان تأثري بهما وحزني عليهما عظيمًا فالأول هو معلّمي وصديقي المعلّم (حنا كوركيس شيعا) والثاني هو هذا الصديق المرحوم (بهنان يعقوب صارة) لروحيكما كلّ الرحمة ونفسيكما كلّ الرّاحة.
ملاحظة: كنتُ كتبت نصّ هذا الكرّاس بتاريخ 9/10/1982 أي في اليوم التالي لوفاته وقد أعدت كتابته اليوم مع بعض التعديل المستوجب لتغيّر بعض الحالات راجيًا أن أكون أفدتُ وخدمتُ ذكراه العطرة وكذلك أبناء بلدة آزخ الحبيبة.
الصور المرفقة
نوع الملف: jpg 24.jpg‏ (9.0 كيلوبايت, المشاهدات 2)
نوع الملف: jpg 18.jpg‏ (12.4 كيلوبايت, المشاهدات 2)
نوع الملف: jpg 29.jpg‏ (31.9 كيلوبايت, المشاهدات 2)
نوع الملف: jpg 22.jpg‏ (11.6 كيلوبايت, المشاهدات 2)
__________________
fouad.hanna@online.de


التعديل الأخير تم بواسطة fouadzadieke ; 26-06-2020 الساعة 09:32 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:33 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke