Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الديني > المنتدى السرياني > السريان في العالم > السريان في أوروبا

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-02-2015, 03:41 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,595
افتراضي الأناثيما (الحِرْم) بقلم الخوري جوزيف ترزي لوس أنجلوس

الأناثيما (الحِرْم)
بقلم الخوري جوزيف ترزي
لوس أنجلوس
سجّلَ قداسة البطريرك زكّا عيواص رقمًا قياسيًا في إنزال العقوبات الكنسية الصارمة بحق الإكليروس والعلمانيين في تاريخ الكنيسة السريانية في العصر الحديث. وكان من بين ضحايا الدفعة الأخيرة من حُرُمِه الجائرة حوالي ثلاثمائة وخمسون عائلة سريانية مع كاهنهم كاتب هذا المقال في لوس أنجلوس، والمطران موسى جرجون والربّان عيسى أيغور والراهب اسطفانوس بوداق في أوروبا.
لقد أعادنا قداسة البطريرك زكّا عيواص إلى أيام محاكم التفتيش والحُرُم واللّعَنات التي كانت سائدة في الكنيسة في العصور الوسطى، ممّا أدّى إلى الانقسامات التي حدثت في الكنيسة السريانيّة في عهده. وقد تراوحت ردود الفعل عند الشعب إثر صدور هذه الحُرُم من استنكار واستهجان ورفض إلى لامبالاة أو ارتباك، أو إلى خوف وتردد عند بعض الفئات التي تنقصها الثقافة الدينيّة. وعلى العموم، لا يُحَمّل معظمُ الناس أنفسَهم عبء البحث عمّا يقوله الكتاب المقدّس في موضوع الحِرْم، بل يقبلونه ببساطة، طائعين الجهة المُصْدِرة سواءً أكانت مُحقًّةً أو ظالمَةً، قابلين العقائد والتعاليم الخاصّة بالكنيسة حتّى إذا كان بعضها خاطئًا ومخالفًا للتعاليم الإلهية أو يبلغ حد الخرافة، وذلك دون فحص أو تدقيق أو تحقيق في الأسباب والمُبرّرات، وفي أقوال كتاب الله، فتكثر بذلك المعتقدات والأفكار الخاطئة وتزدهر التعاليم المُضلّلة. ولهذا عمدنا إلى إعداد هذا البحث لكشف ما يقوله الكتاب المقدّس في عهده الجديد عن الحِرْم، والأسس التي يعتمد عليها في تحديد مَن يتوجّب حِرْمُه أو عزله واجتنابه.
تعريف كلمة أناثيما
من العبارات التي يستخدمها رجال الدّين المسيحيّ في معاقبة وإقصاء أو التخلّص مِمَّن لا يريدونهم في كنيستهم: الحرمان، الطرد، الإبعاد، اللّعنة، العزل، قطع الشّركة، التوقيف وغيرها. وهذه كلّها يعبّرون عنها بالكلمة اليونانيّة أناثيما (Anathema)، التي تعني أصلاً ما يُقدَّم للآلهة مِن قرابين. وفي العهد القديم استخدمت اللفظة لتعني ما خُصِّص أو أُفرِدَ حصرًا لله تعالى (الأحبار 27: 27-28 ). وقد تطوّر معنى الكلمة ليدّل على:
1- العزل الرّسمي
2- النّفي، الطرد، التّخلّص مِن، إبعاد، أوقطع الشركة، التوقيف
3 - الإدانة وأحيانًا اللعنة.
وقد استخدمتْ الترجمة السريانيّة البسيطة للكتاب المقدّس لفظة ܚܪܶܡ(حْرِمْ) لترجمة كلمة "أناثيما" التي تعني بشكل عام المنبوذ، المطرود، المقطوع من شركة الكنيسة، وأيضًا الملعون والمحروم. أمّا في الترجمات العربية فتُستخدم الكلمات التالية لترجمة عبارة "أناثيما": مرذول (كتاب الحياة)، أناثيما، محروم، مُبْسَل. أمّا في اللغة الانكليزية، فمعظم الترجمات تستخدم كلمة accursed أي الملعون، وبعضها يترجم "أناثيما" بعبارة condemned أي محكوم عليه بالهلاك في جهنّم أو بالعقوبة الأبديّة.
يلاحظ أن هناك بعض الصعوبة في تفسير معنى كلمة "أناثيما" ولا سيّما وقد أصبحت بصورة عامة مرتبطة بكلمة "ملعون." فالمعنى الأصلي لكلمة "أناثيما" في الأدب اليوناني، كما ذكرنا آنفًا هو تقدمة للآلهة، واستُعملتْ في الترجمة السبعينيّة للتوراة لترجمة الكلمة العبرية "حِرِمْ" التي عَنَتْ "الممنوع"، أو المتعذّر الوصول إليه. وبصورة مماثلة، استخدمت الترجمة السريانية أيضَا كلمة "ܐܰܚܪܶܡأَحْريم" لترجمة كلمة أناثيما متأثّرة بالأصل العبري "حِرِمْ" أي خصَّصَ أو قدّسَ الشيءَ للرَّب (الأحبار 28: 28). وهكذا تحوّل معنى كلمة "أناثيما" اليونانيّة المتأثّرة بكلمة "حِرِمْ" العبرية والمرتبطة بها إلى "أفرَدَ أو وضعَ جانبًا"، بدلاً من "تقدمة لله" كما عَنَت الكلمة اليونانية أصلاً. وأخيرًا أصبح معناها النفي أو الطرد أو "التخلّص من"، وهي توحي إلى أنّ الشيء خارج عن نطاق حكم أو معونة جماعة معيّنة. ومع الأسف لا توجد كلمة واحدة في اللغة الانكليزية تُعطي المعاني المشروحة أعلاه، وإنَّ استعمال كلمة "Curse" أي لعنة مؤسف حقًّا لأنها تشير إلى قوى الظلام وفنون السّحر والرقية، وهذه أمور محظورة في المجتمعات المسيحيّة، والمسيحيّة تنهى عن استنزال اللعنة على أيٍّ كان: "باركوا ولا تلعنوا" (رومية 12: 14).
يتّضح مما سبق أن كلمة "أناثيما" كانت تشير في العهد القديم إلى كلّ شيء أُفْرِزَ أو وُضع جانبًا في معبد ما كشيء مقدّس. وبهذا المعنى استُعملت الكلمة بصيغة الجمع في أسفار العهد الجديد اليونانية لفترة من الزّمن لتعني الأحجار الكريمة وتحف النذور في الهيكل (لوقا 21: 5) وعُني بها التقدمات. وعلى نحو مشابه، وردت الكلمة في سفر يهوديت لتعني "تقدمات للرّب". وفي الترجمة السبعينيّة، وردت لفظة "أناثيما" كترجمة لكلمة "حِرِم" المشتقَّة من فعلٍ معناه (1) كَرَّسَ أو قدَّسَ (2) أبَادَ. فكلُّ شيء كُرِّسَ أو أُفْرِزَ أو خُصِّصَ للرّب كان من المستحيل استرداده (عدد 18: 14؛ الأحبار 27: 28-29). وبهذه الصورة ارتبطت فكرة الإبادة بالكلمة المذكورة. فكلمة "حَرَام" العبرية كثيرًا ما تُستخدم لإبادة الأمم الوثنيّة وكان لها استعمال واسع. فـَ "أناثيما" أو "حِرِمْ" كان إنسانًا أو شيئًا مُكرَّسًا لله بصورة قطعية ونهائية (الأحبار 27: 21) لا يمكن استرداده بل يُقتل قتلاً: "كلّ حَرَامٍ يُحرَّمُ من الناس لا يُفدى يُقتل قتلاً" (الأحبار 27: 29). وهكذا حملت الكلمة العبرية فكرة كلّ ما يُقدّس للرّب يُقتَل (عدد 21: 2-3؛ يشوع 6: 17). وبناءً على ذلك فإن معظم اللاهوتيين عاملوا لفظة "أناثيما" بصورة مشابهة، أي أنها تعني بشكل عام شيئًا ملعونًا. فمثلاً، في سفر التثنية 7: 26، دُعيت تماثيل الآلهة "حِرِم" أي أناثيما ويُفهم منها أنها ملعونة. إلا أن هناك من يرى أن كلمة أناثيما اليونانية في هذه النصوص استخدمت في الترجمة السبعينية لتعني "تقدمة رُفعت إلى لله."
الأناثيما في العهد الجديد
يقول الرأي التقليدي أنّ كلمة "أناثيما" في العهد الجديد تشير ضمنًا إلى شجب وإقصاء تأديبي من الشركة في الكنيسة (طرد أو نفي). وكان لليهود شكلان من الحِرْم: التعيير والفصل، ونبذ الاسم نبذ شرّير. وقد بدا المسيح وكأنه يُلمّح إلى ذلك في لوقا 6: 2 : "طوبى لكم إذا أبغضكم الناس وفصلوكم وعيّروكم وأخرجوا اسمكم كشرّير"، وكما يظهر في يوحنا 9: 34 و 35، حين أخرج الفرّيسيون الأعمى الذي فتح يسوع عينيه خارجًا "وطردوه خارجًا."
والحِرْم المسيحيّ أقرّه السيّد المسيح ومارسه الرّسل. فقد قال له المجد: "«وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ.وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ." (متى 15-18). أمّا عن ممارسة الرسل للحرمان فنجدها في تيموثاوس 1: 20: "الَّذِينَ مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَالإِسْكَنْدَرُ، اللَّذَانِ أَسْلَمْتُهُمَا لِلشَّيْطَانِ لِكَيْ يُؤَدَّبَا حَتَّى لاَ يُجَدِّفَا."، وفي 1 كورنثوس 5: 10: "وَأَمَّا الآنَ فَكَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخًا زَانِيًا أَوْ طَمَّاعًا أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّامًا أَوْ سِكِّيرًا أَوْ خَاطِفًا، أَنْ لاَ تُخَالِطُوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هذَا... فَارفعوا مِنْ بَيْنِكُمْ الشِرِّير." ونجد كذلك قولاً مُماثلاً في تيطس 3: 10: "اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، أَعْرِضْ عَنْهُ. عَالِمًا أَنَّ مِثْلَ هذَا قَدِ انْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ."ويبدو أنّ التسليم إلى الشيطان (1 كورنثوس 5:5؛ 1 تيموثاوس 1: 20) يعني الإخراج أو الطرد من الكنيسة التي هي مملكة النّور الخاصّة بالمسيح، إلى العالم الخاضع لسلطان الشِرِّير (إفسس 6:12؛ 1 يوحنا 5: 19).
يبيّن لنا العهد الجديد بكلّ وضوح أنّ الغاية من الحِرْم هو تأديب المذنب ومنفعته: " أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ."(1 كورنثوس 5:5)، وصالح الأعضاء الأصحاء: "وَأَمَّا الأَقْوَالُ الْبَاطِلَةُ الخَالِيَةُ مِنَ المَنْفَعَةِ فَاجْتَنِبْهَا، لأَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ بِهِ كَثِيرًا فِي النِّفَاقِ، وَكَلِمَتُهُمْ تَرْعَى كَالآكِلَةِوَمِنْهُمْ هُمَنَايُسُ وَفِيلاتُسُ." (2 تيموثاوس 2: 16-17)، والمُعَرَّضون للحِرْم هم المُدانون بالهرطقة أو بالفسق والفجور والأعمال اللاأخلاقية الكبيرة، والجهة المُعاقِبَة هي الكنيسة (متى 18: 18) ممثّلةً بخُدَّامها (تيطس 3: 10؛ 1 كورنثوس 5: 1، 3، 4). ومن المهمّ جدُّا أنْ نُدْرِكَ جيّدًا أنّ عِصمة سلطان مار بولس الرسول حين يستخدم هذا السلطان بإلهامٍ إلهيّ لا تُبيح مُطلَقًا رُعاة الكنيسة غير المُلْهمين بوحي إلهيّ الادّعاء بأنهّم يملكون نفس الحقّ أو السّلطة فيُصدروا قرارات حِرْمٍ جائرة اعتباطيّة باسم الكنيسة كما يسوغ لهم ودون تدقيق أو محاكمة عادلة، أو لأسباب لا تقرّهُ تعاليم السيّد المسيح ورسله الأطهار: "حَتَّى إِنَّهُ أَحْرَى لَكُمْ بِالْعَكْسِ أَنْ تُسَامِحُوهُ وَتُعَزُّوهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ ذِلِكَ مِنْ فَرْطِ الغَمِّ. لِذلِكَ أَطْلُبُ أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ.بَلْ لِهذَا كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟" (2 كورنثوس 2: 7-9)
وفي بعض الحالات قد يُعلن أحد ما الأناثيما على نفسه إن لم تتحقق شروط معيّنة: "قالوا إننا تحالفنا على إبسال (حِرْمِ أو فرض الأناثيما على) أنفسنا أن لا نذوق شيئًا حتى نقتل بولس" (أعمال 23: 21؛ 23: 14؛ 23: 12). واعتُبر كلّ من يقول يسوع أناثيما إنّما يُعلن بأنه ملعون: "ليس أحد ينطق بروح الله ويقول يسوع أناثيما، ولا يستطيع أحد أن يقول يسوع ربّ إلا بالروح القدس" (1 كورنثوس 12: 3). وجاء في غلاطية 1: 8-9 "ولكن إن بشّرناكم نحن أو ملاكٌ من السماء بخلاف ما بشّرناكم به فليكن أناثيما"، أي فليكن مطرودًا (من جماعة المؤمنين).
غير أنه في رأي البعض، إن كلمة أناثيما في العهد الجديد استخدمت لتعني "قُدِّم لله". ففي رومية 9: 3 ورد ما يلي: "وددتُ لو أكونُ أنا بنفسي أناثيما (محرومًا) من المسيح من أجل إخوتي ذوي قرابتي بحسب الجسد"، أي أن أُستثنى من الشركة أو التحالف مع المسيح، وهذا ما يضع أمامنا صعوبة كبيرة: هل يمكن أن يتمنى بولس الرسول أن يحرمه السيد المسيح؟!
بحسب الرأي التقليدي لا يتحدّث الرسول هنا عن أمنية يمكن أن تتحقيق وإنّما الأمر هو بكلّ بساطة تعبير عن شعور قويّ حماسيّ ووقّاد يُظهر فيه مدى رغبته في خلاص أقربائه. أمّا بحسب الرأي الآخر، فإن بولس الرسول يُعبّر عن أمنيته أن يُقدَّمَ قربانًا لله.
أمّا بالنسبة للآية 1 كورنثوس 16: 22 : "كلّ مَن لا يُحبّ ربَّنا يسوع المسيح فليكن أناثيما (محرومًا). مَارَان أَثَا."، يرى الرأي التقليدي أن المقصود هنا هو أن الذين لا يُحبون الرّبَّ هم عرضة للإشمئزاز واللعنة من قبل جميع الأبرار، فهم غير تائبين عن جريمة تستحق أشد الإدانة، ومعرّضون لحكم الحرمان الأبدي من حضرة الله، كما كان الحكم على البشرية قبل عملية الفداء والتبريروالتقديس بدم المسيح يسوع. أمّا الرأي الآخر فهو أن بولس الرسول يقول:أولئك الذين لا يُحبون الرّبَّ يسوع يجب تقديمهم للرّب (للمحاسبة)، أي يُترك أمر محاسبتهم للرّب.
يبدو أن عبارة "ماران أثا" الآرامية كانت تُستعمل للتحيّة من قِبل المسيحيين الأوّلين، وعلى الأرجح استعملها بولس الرسول للغاية ذاتها، ومعناها "الرّب قد أتى،" وبعضهم يترجمونها "تعال أيّها الرّب"، إلاّ أن الترجمة الأولى أصح. وقد اعتقد بعض المسيحيين الأولين (حتى القرن السابع الميلادي) أن هذه العبارة مرتبطة بكلمة أناثيما السابقة لها وذلك لخلوّ نصوص العهد الجديد اليونانية القديمة من الترقيم (النقط والفواصل إلخ.) فألحقوها في صكوك الحُرُم ظنًّا منهم أن المقصود هو : أن المذنب سوف يظل مقطوعًا من الشركة مع الكنيسة حتى مجيء المسيح الثاني. وكان اليهود قد اعتادوا في تلك العصور أن يُضيفوا إلى رسائل الحُرُم التي كانوا يُصدرونها بحق أي إنسان العبارة السريانية "ܡܳܪܰܢ ܐܶܬ݂ܳܐماران أثا" بمعنى أنّ الرّبَّ آتٍ لينتقم منه. إلا أن الفهم السلبي لعبارة "ماران أثا" تلاشى بحلول القرن التاسع عشر مع بقائه في بعض الفئات المسيحية حتى اليوم.
الحِرْمُ في بعض الكنائس
بعد العصر الرّسولي، تغيّر معنى كلمة "أناثيما" فاتّخذ شكلاً من أشكال العقوبة الصارمة تتجاوز إلى حدٍّ بعيد الإقصاء أو الاجتناب، واتّسعت أسبابهذه العقوبة ومبرّراتها وابتعدت عن تعاليم الإنجيل الشريف. وأقدم مثال على ذلك ما حدث في مجمع إلفيرا Elvira حوالي عام 306 م. بعد هذا المجمع، أصبح هذا النوع من العقوبة وسيلة عامّة لقطع الهراطقة. فقد أصدر قوريللوس الإسكندري في عام 431 م أثني عشر أناثيما بحقّ نسطور. إلاّ أنه في القرن الخامس نشأ تمييز رسميّ بين الأناثيما والقطع أو الإبعاد (Excommunication) حيث أصبح منع الإنسان من الإشتراك في الأوخرستيا وحضور العبادة يسمّيان Excommunication، بينما دلّت الأناثيما على فصل الإنسان عن الكنيسة نهائيًّا. وكانت هناك درجة قطع أدنى تُفرض على من عاشر إنسانًا محرومًا.
وعقوبة القطع الأدنى كان يفرضها الأسقف أمّا الأناثيما فكان يصدرها السلطة العليا في الكنيسة في احتفال خاص. إلاّ أنّه في عام 1917 جُعِل الأناثيما مرادفًا لكلمة القطع Excommunication.
الحِرْم في الكتاب المقدّس
تعتبر الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأرثوذكسية بفروعها مَنْ وقعت عليهم عقوبة الحِرمان غير موجودين في هذا العالم وكأنهم أموات، يتجنّبهم أصدقاؤهم، وتُجبر الكنيسة أهاليهم على الابتعاد عنهم. وتحرم بعض الكنائس من يُعاشر محرومًا، كما ذكرنا، أو من يتكلّم معه. وقُصارى القول، تستخدم بعض الكنائس ورجال الدين عقوبة الحِرمان أداةً للتسلّط على أتباعها عن طريق الترهيب. ولم يكن الأمر هكذا مع الرّسل والقدّيسين والمسيحيين الأوائل. إنّ المرجع الأعلى والأخير المعصوم عن الخطأ في معنى وأسباب وكيفية ممارسة عقوبة الحرمان في المسيحية هو الكتاب المقدّس لا غير. وبالعودة إلى صفحاته يمكننا أن نرى ما يقوله الله في هذا الموضوع.
1- مسئوليّة تحديد وملاحظة المستحقين الحِرمان:
بدايةً، من هو المسئول عن تحديد المؤمن الذي يستحقّ عقوبة الحِرْم وإفراده لفرض العقوبة؟ للإجابة على هذا السؤال يجدر بنا العودة إلى الآية 17 من الأصحاح السادس عشر من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ." لاحظ أيها القارئ العزيز أن الرسول بولس لم يطلب من راعٍ أو واعظٍ أو شيخٍ أو أسقفٍ ملاحظة وتحديد من يصنع الشقاقات والعثرات وإبعاده، بل كان ذلك مسئوليّة المؤمنين بمجموعهم وبكلّيّتهم! ويتّضح هذا من جميع النصوص التي أعطى فيها بولس الرسول هذه التوجيهات، وليس هناك أي دليل يشير أنّ أسفار العهد الجديد تُؤيّد مفهوم الحرمان وطريقة ممارسته من قِبل بعض المسئولين من رجال الدين المسيحيّ.
2- أسباب ودواعي الحرمان:
إذا ما أمعنّا النظر في آيات العهد الجديد، نرى أنّ الحرمان في الديانة المسيحيّة يرتكز على أساسين إثنين لا ثالث لهما، الأوّل هو الهرطقة، والثّاني هو الفسق والفجور والأعمال اللاأخلاقيّة، وقد عدّد بولس الرسول هذه الأعمال في 1 كورنثوس 5: 10: "وَأَمَّا الآنَ فَكَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخًا زَانِيًا أَوْ طَمَّاعًا أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّامًا أَوْ سِكِّيرًا أَوْ خَاطِفًا ... لاَ تُخَالِطُوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هذَا... فَارفعوا مِنْ بَيْنِكُمْ الشِرِّير."
الهرطقة
الهرطقة كلمة أصلها يوناني hairesis وتعني اختيار عقائد معيّنة أو اختيار مجموعة تؤمن بعقائد معيّنة. ومع أنّ كلمة "هرطقة" أو "بدعة" وردت في العهد الجديد، إلاّ أنّ معناها واستعمالها يختلفان عن مفهوم الهرطقة عند الكنائس في أيامنا هذه. ففي العهد الجديد تعني الهرطقة مخالفة تعاليم السيّد المسيح، وتعاليم رسله المبنيّة على تعاليمه وليس مخالفة العقائد. فالعقائد تعاليم بشريّة، وآباء الكنيسة هم الذين صنعوا القوانين الإيمانية وصاغوا العقائد، وأجبروا المؤمنين على التقيّد بها واتّباعها وطاعتها. أمّا السيّد المسيح فقد بيَّنَ لتلاميذه كم معلّمًا ينبغي عليهم اتّخاذهم أواتّباعهم: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.وَلاَ تُدْعَوْا مُدَبِّرِين، لأَنَّ مُدَبِّرَكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَسِيحُ."(متى 23: 8-10). وعلى هذا التعليم يستند بولس الرسول في قوله: "وأسأَلُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِدًا، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ، بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ، فقد أَخْبَرَنِي عَنْكُمْ أَيُهَا الإِخْوَةُ أَهْلُكُلْوَةَ أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ.فَأَنَا أَعْنِي أَنَّ بَيْنَكُمْ مَنْ يَقُولُ:«أَنَا لِبُولُسَ»، و«َأَنَا لأَبُلُّوسَ»، وَ«أَنَا لِكِيفَا»، وَ«أَنَا لِلْمَسِيحِ».ألَعَلَّ الْمَسِيحُ قَدْ تَجَزَّأَ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟" إنّه من الواضح هنا أنّ بولس يحضُّ المؤمنين على اتّباع المسيح وَلَيْسَ الرُّسل أو المعلّمين أو الكارزين، لأنّ اتّباع هؤلاء يُولّدُ الانقسامات، كما حدث في الكنيسة المسيحيّة: "فَأنْتُم مَا زِلْتُمْ بَشَرِيِّينَ،فَإِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقَاتٌاَفَلَيْسَ فِي ذِلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّكُمْ بَشَرِيُّونَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الجَسَدِ؟لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ:«أَنَا لِبُولُسَ» وَآخَرُ:«أَنَا لأَبُلُّوسَ» أَفَلَسْتُمْ بَشَرِيِّينَ؟فَمَنْ هُوَ بُولُسُ؟ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ إِنَّهُمَا خَادِمَانِ آمَنْتُمْ عَلَى أَيْدِيهِمَا" (1 كورنثوس 3: 3). إنّه واضح تمامًا أنّ بولسَ الرّسول يقول هنا للمؤمنين والقدِّيسين في كورثوس أَنّ عليهم أن لا يتبعوا البَشَرَ في تعاليمهم، بل المسيح وتعاليمه. فالرّسل وخلفاؤهم ما هم إلاّ خُدَّام يقودون النّاس إلى المسيحِ وتعاليمه، وليس أوضحٌ من قول الرّسول في هذا الصّدد: "مَنْ هُوَ بُولُسُ؟ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ إِنَّهُمَا خَادِمَانِ بِهِمَا اهْتَدَيْتُمْ إِلى الإِيمَانِ عَلَى قَدْرِ مَا أَعْطَاهُمَا الرَّبُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا" (1 كورنثوس 3: 5)، و " َإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا، وَلكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ." (2 كورنثوس 4: 5).
إنّنا نورد هذه الآيات لأنّ هناك رجال دين ومسئولين روحيّين يُحرّفون هذه الآيات أو يُفَسّرونها على هواهم ويطلبون من الناس أن يتبعوهم ويُطيعوهم دون طاعة الإنجيل الشريف، فهم يدّعون أنهم هم القادة ويجب طاعتهم بصورة مطلقة حتى إذا كانت هذه الطاعة في معصية الله، في حين أنّ للمؤمنين قائدًا واحدًا ينبغي طاعته طاعة مطلقة، وسيّدًا واحدًا ومخلّصًا واحدًا وربًّا واحدًا هو السيّد المسيح.
ودعا بولس الرسول المؤمنين والقدّيسين إلى الابتعاد عن الذين يصنعون الشقاقات والشكوك بمخالفتهم التعليم الذي تعلّموه من الرّسل (رومية 16: 17)، ولا يُقصد هنا العقائد التي هي من وضع البشر: "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ.لأَنَّ أَمْثَالَ هؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ. وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ." يبدو أنّ صانعي الشّقاق والعثرات كانوا يفعلون ذلك لكسبٍ مادي وذلك بجعل أنفسهم رؤساء وقادة والتظاهر بعذوبة الكلام والدعاء بالبركات.
وتحدّث بولس الرسول عن وجوب طرد المنتفخين بالكبرياء على إخوتهم في صفوف المؤمنين، فهم يحسبون أنفسهم بأنهم ذووي شأن فيتعالون على إخوتهم: "وهذه الأمور أيها الإخوة قد نسبتها إلى نفسي وإلى أبُلُّوس تمثيلاً لكم لكي تتعلّموا فينا لا ينتفخ أحدُكم على صاحبه من أجل أحد فوق ما كُتِب عليكم." (1 كورنثوس 4: 6).
ويدخل ضمن نطاق الهرطقة أيضًا الدعوة إلى ممارسة بعض طقوس العهد القديم كالختان مثلاً، فقد تمنّى بولس الرسول أن يُقطع (يُعزل) من كان يُقلق المؤمنين بالدعوة إلى الختان (غلاطية 5: 11). ويُعلّم بولس الرسول أيضًا بأنّ كلّ من كان سليم العقل والجسم وفي عمر يستطيع فيه العمل، عليه أن يعمل لكسب معيشته، ولا يقصد هنا العمل ككارز بل في مهنٍ انتاجية. ومن امتنع عن العمل وشاغل نفسه بالتدخل في ما لا يعنيه استحقّ أن يُفصل عن جماعة المؤمنين شريطة أن لا يُعامَل كعدُوٍّ بل يُوعَظَ كأخٍ. وكذلك حذّرَ بولس من الكسل وأكل الخبز مجانًا ومن مكسب الغير (2 تسالونيكي)، وهذا التعليم شملَ الجميع بما فيه الرسل والقديسين، فالقدّيس بولس نفسه كان يعمل في صناعة الخِيَم لكسب معيشته (أعمال 18: 1-3).
ويوصي بولس الرسول الابتعاد عن المماكحات والمباحثات التي ينشأ عنها الحسد والمخاصمات والتجاديف والظنون السيّئة وعن الذين يتّخذون الدين سبيلاً إلى كسب المال: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيمًا آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ، وَالتَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى، فَقَدْ تَصَلَّفَ، وَهُوَ لاَ يَفْهَمُ شَيْئًا، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّلٌ بِمُبَاحَثَاتٍ وَمُمَاحَكَاتِ الْكَلاَمِ، الَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ الْحَسَدُ وَالْخِصَامُ وَالافْتِرَاءُ وَالظُّنُونُ الرَّدِيَّةُ، 5وَمُنَازَعَاتُ أُنَاسٍ فَاسِدِي الذِّهْنِ وَعَادِمِي الْحَقِّ، يَظُنُّونَ أَنَّ التَّقْوَى تِجَارَةٌ. تَجَنَّبْ مِثْلَ هؤُلاَءِ. وَأَمَّا التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ. لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ، فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا. وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ."(1 تيوثاوس 6: 3-11).
ويأمرنا بولس الرسول أيضُا أن نُبعد أنفسنا عن المحبين لأنفسهم ومحبي المال وما يتبعهم من الصفات: "مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، دَنِسِينَ،بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ،خَائِنِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ ِللهِ،لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ." (2 تيموثاوس 3: 1-5)
أمّا رَجل البدعة فيوصينا بولس أن نعرض عنه وذلك بعد إنذاره مرّة ومرّتين: "وَرَجُلُ البِدْعَةِ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، أَعْرِضْ عَنْهُ. فَإِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ هذَا الرَّجُل قَدْ انْحَرَفَ، وَهُوَ خَاطِئٌقَدْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ." والبِدعةُ تعليم بشريّ لا إلهيّ يتبع بعض الناس صاحبَها ممّا يؤدي إلى انشقاق وبالتالي فصاحب البدعة هو رجل شِقاق. ويتّفق يوحنّا الرسول مع بولس الرسول في هذا الصدد في رسالته الثانية حيث يقول: "فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْعَالَمَ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ آتِيًا فِي الْجَسَدِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمُضِلُّ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ. فَانْظُرُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَخْسَرُوا ثِمَارَ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ تَنَالُوا أَجْرًا تَامًّا. كُلُّ مَنْ تَعَدَّى وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَلَيْسَ لَهُ اللهُ. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَهذَا لَهُ الآبُ وَالابْنُ كِلاهُمَا. فَمَنْ أَتاكُمْ ولَمْ يَأْتِ بِهَذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. فَإِنَّهُ مَنْ قَالَ لَهُ سَلامٌ فَقَدْ اشْتَرَكَ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ." (2 يوحنا 7-11). وقد اعتبر يوحنا الرسول كلّ مُضلًّ في أيّامه يُمثّل الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ.
وبسبب هذه العقائد التي صاغها البشر شرع أصحابها يلجأون إلى المَنعِ والحِرْمِ والعداوة والقطيعة للعقائد التي تخدم باسم المسيح. هذه هي قضيّة اليوم والأمس والغد وبعد الغد. وقد قام يوحنا الرسول بدور قيادي رائد وطرحَ قضيّة خطيرة للمسيح حين قال: "«يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ سُوءًا. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا." (مرقس 9: 38-40). فأين أنت ياربّ من الكنيسة وقد منعتْ وقطعتْ وحرمتْ وآذتْ ولعنتْ بعضها البعض، والكلّ يخدم باسمك المبارك، ويعبد بالرّوح والحقّ، والشعب يدفع الثمن، والمسيح مطعون في القلب، والجسد بكامله يدمي متألّمًا، والكلّ قانعٌ وراضٍ على هذه الجريمة في حقّ المسيح. أجل، باسم المسيح أُقيمت المجامع للحرم والاضطهاد والكلّ يقول "لأنهم لا يتبعوننا"، ومبدأ "طالما لا يتبعنا نحرمه، و "حرمناه لأنه لا يتبعنا" يُطبّق اليوم حتى ضمن العقيدة الواحدة وبحقّ أبناء العقيدة الواحدة، وأوضح مثال على ذلك حرمان المجمع السرياني الأنطاكي برئاسة البطريرك يعقوب الثالث كنيسة الهند السريانية الأرثوذكسية لأنها "لم تتبعهُوحرم ِالبطريرك زكّا عيواص كاتب هذه السطور وأكثر من ثلاثمائة عائلة تُصلّي معه رغم تمسّكهم الشديد بعقيدة الكنيسة، وكذلك حرمانه للمطران سويريوس موسى جرجون والربّان عيسى أويغور والراهب اسطفانوس بوداق الذين لم يتبعوه بل تبعوا كنيسة تؤمن بإيمانه حرفيًّا.
لقد صرَّحَ المسيح بالقانون الذي يضبط التعامل بين العقائد في إنجيل مرقس 9: 4 هكذا "لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ فَهُوَ مَعَكُكْم.أي طالما صاحب المبدأ أو العقيدة لا يعمل ضدّ ما نعلّمه أو نقولُهُ أو نؤمن به فهو بالضرورة معنا، حيث يربطنا معًا مَنْ نعمل لحسابه ونخدمه كلانا وهو المسيح الرّب. هذا أخطر مبدأ يحكم الجماعة المسيحيّة، وحين تجاوزوا هذا المبدأ وكسروه، انكسرت وحدة الجماعة إلى عقائد منقسمة على بعضها تعادي بعضها البعض، وكلّ واحد يعمل ضد الآخر باسم المسيح.
وحتى الذين ليسوا معنا في عبادة المسيح الواحد لا يصحّ ولا يجوز أن نعاديهم ولا نفرزهم من محبّتنا لأنّ وصيّة "أَحبوا أعداءكم" تقف سدَّا منيعًا ضد أية عداوة لأيّ إنسان مهما كانت عداوته لنا، فالمحبّة في المسيحيّة قائمة على البذل والعطاء خلوًا من مبادلة المثل بالمثل.
الخاتمة
يتبيّن لنا من مناقشتنا لموضوع الحِرْم بالاستناد إلى تعاليم العهد الجديد، أي بتعاليم السيّد المسيح وفتاوى رسله الأطهار وليس إلى تعاليم وتفاسير الآباء والمجامع ما يلي:
1- مفهوم الحِرم بحسب التعليم الإلهي في العهد الجديد والعصر الرسولي هو الإبعاد أو النفي أو الطرد أو الشجب. أمّا ما بعد العصر الرسولي، فقد اتّخذت عبارة "أناثيما" أو الحرمان شكلاً من أشكال العقوبة الصارمة ولأسباب تجاوزت ما جاء في التعاليم الإلهية ولا تجيزها هذه التعاليم.
2- هناك حالتان فقط تجيزان الحِرم في الدين المسيحي وهما:
أ- الهرطقة: وهي ابتداع تعاليم غريبة عن تلك التي جاء بها السيد المسيح، وبشّر بها الرسل، أومخالفة هذه التعاليم المستقاة مباشرة من فم المعلّم الأوحد، السيّد المسيح، وتشمل هذه كرازة الرسل والتلاميذ بهذه التعاليم بحذافيرها دون زيادة أو نقصان، ودون تفاسيرهم الشخصية الخاصّة. وهذا ما يجعل كلّ الحُرُم الصادرة بسبب اختلافات في العقائد المصاغة من قبل البشر باطلة وغريبة عن تعاليم المسيح.
ويلحق بموضوع الهرطقة إحداث الشقاقات الناتجة عن إحداث عقائد جديدة بشريّة وبالتالي إحداث شيَع وفِرَق جديدة. ولا تشمل الشقاقات هنا الانقسامات غير المتعلّقة بالهرطقات، كالإنقسام بسسب الجور والظلم، والاختلاف في أمور إداريّة لا علاقة لها بتعاليم المسيح والعقيدة. لقد لجأت بعض الكنائس أو العقائد إلى اعتبار عدم الطاعة العمياء لمسئول روحي وحتى إذا كان ذلك تجنبًا لمعصية الله، هرطقة تستوجب الحِرم، وهذا كُفر بحد ذاته بالتعاليم الإلهية.
ب- الاستمرار في الانغماس في الفسق والفجور وارتكاب المحرّمات دون توبة.
تعقيب
أيها القارئ اللبيب، بعد أن قرأتَ هذا البحث ووقفت على معنى الحِرم ومبرّراته في المسيحية، هل تعتقد أن الحرمانات التي أصدرها قداسة البطريرك زكّا عيواص وبعض نوابه من المطارنة تتفق وتعاليم الإنجيل الشريف أم هي عمليات انتقامية موجهة ضد كل من يخالف مشيئتهم صالحة كانت أم طالحة، ظالمة كانت أم عادلة، مطابقة كانت لوصايا الله أومخالفة؟ هل هي شرعيّة بحسب التعاليم الإنجيلية أم مخالفة لها روحًا وحرفًا وبالتالي باطلة؟ احتكم إلى الكتاب المقدّس وإلى ضميرك وقل الحقّ!
__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:22 PM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke