عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-11-2024, 06:17 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 48,222
افتراضي مشاركتي قبل قليل على برنامج نحن و الحياة و موضوع رجعة الشتويّة في اكاديمية رياض الشّع

مشاركتي قبل قليل على برنامج نحن و الحياة و موضوع رجعة الشتويّة في اكاديمية رياض الشّعر و الادب إعداد و تقديم: د. أنعام ابو سعيد و إشراف المدير العام الدكتور عدنان الطيبي و رئيس مجلس الإدارة الدكتورة مها يوسف نصر

رَجْعَةُ الشَّتَوِيَّةِ


بِقَلَمِ: فُؤَاد زَادِيكِى

مَعَ حُلُولِ فَصْلِ الشِّتَاءِ، تَبْدَأُ الْحَيَاةُ تَأْخُذُ طَابِعًا خَاصًّا لَا يُشْبِهُ أَيَّ فَصْلٍ آخَرَ. الشِّتَاءُ لَيْسَ مُجَرَّدَ حَالَةٍ مُنَاخِيَّةٍ، بَلْ هُوَ رُوحٌ تُحِيطُ بِنَا وَ تُعِيدُ إِلَى الْأَذْهَانِ ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَ أَحَادِيثِ الزَّمَنِ الْجَمِيلِ.

فِي اللَّيَالِي الْبَارِدَةِ، حِينَ تَعْصِفُ الرِّيَاحُ بِشِدَّةٍ وَ تَقْرَعُ النَّوَافِذَ وَ كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ الدُّخُولَ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ حَوْلَ الْمَوَاقِدِ الْمُشْتَعِلَةِ. حَرَارَةُ النَّارِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى تَدْفِئَةِ الْأَجْسَادِ فَقَطْ، بَلْ تُذِيبُ جَلِيدَ الْقُلُوبِ وَ تَبْعَثُ فِيهَا الدِّفْءَ وَ الْحَيَاةَ. يَتَسَلَّلُ صَوْتُ الْمَطَرِ الْمُنْهَمِرِ كَأُغْنِيَةٍ حَانِيَةٍ تُعَانِقُ الْأَرْوَاحَ، وَ تَتَخَلَّلُ بَيْنَ ضَجِيجِ الرُّعُودِ وَ زَغَارِيدِ الْبُرُوقِ، الَّتِي تُضِيءُ السَّمَاءَ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَ الْأُخْرَى.

تُحْكَى الْحِكَايَاتُ الْقَدِيمَةُ فِي هَذِهِ السَّهَرَاتِ الطَّوِيلَةِ؛ حِكَايَاتٌ عَنْ أَبْطَالٍ أُسْطُورِيِّينَ، وَ أُخْرَى عَنْ أَحْدَاثٍ وَاقِعِيَّةٍ تَحْكِيهَا الْجَدَّاتُ بِمَلَامِحِ وُجُوهِهِنَّ الَّتِي تَرْوِي الزَّمَنَ. يَلْتَفُّ الْأَطْفَالُ حَوْلَ الْكِبَارِ بِفُضُولٍ وَ تَوْقٍ لِاكْتِشَافِ تِلْكَ الْعَوَالِمِ السَّاحِرَةِ.

أَمَّا الْقَهْوَةُ، فَهِيَ الرَّفِيقُ الدَّائِمُ لِأَيَّامِ الشِّتَاءِ وَ لَيَالِيهِ. تَفُوحُ رَائِحَتُهَا الزَّكِيَّةُ، فَتَمْلَأُ الْمَكَانَ بِدِفْءٍ خَاصٍّ يُبْعَثُ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ. تُسْكَبُ الْقَهْوَةُ فِي فَنَاجِينِ صَغِيرَةٍ، تُحْمَلُ بَيْنَ الْأَيْدِي وَ كَأَنَّهَا كَنْزٌ ثَمِينٌ. لِكُلِّ رَشْفَةٍ مِنْهَا حِكَايَةٌ، وَ لِكُلِّ جَلْسَةِ قَهْوَةٍ ذِكْرَيَاتٌ تُضَافُ إِلَى سِجِلِّ الشِّتَاءِ.

تَكْتَسِي الْجِبَالُ وَ السُّهُولُ بِحُلَّةٍ بَيْضَاءِ نَاصِعَةٍ حِينَ تَهْطُلُ الثُّلُوجُ، فَتَتَحَوَّلُ الطَّبِيعَةُ إِلَى لَوْحَةٍ سُرْيَالِيَّةٍ تَعْكِسُ نَقَاءً وَ صَفَاءً قَلَّ نَظِيرُهُمَا. يَخْرُجُ الْأَطْفَالُ لِصُنْعِ رِجَالِ الثَّلْجِ، وَ تَتَطَايَرُ كُرَاتُ الثَّلْجِ بَيْنَ الضَّحِكَاتِ الصَّادِقَةِ، بَيْنَمَا يُفَضِّلُ الْكِبَارُ مُرَاقَبَةَ هَذَا الْمَشْهَدِ مِنْ خَلْفِ النَّوَافِذِ الْمُغْلَقَةِ، يَحْتَسُونَ الْقَهْوَةَ أَوِ الشَّايَ وَ يَتَأَمَّلُونَ الطَّبِيعَةَ فِي صَمْتٍ.

لَا تَخْلُو لَيَالِي الشِّتَاءِ مِنْ تَأَمُّلَاتٍ عَمِيقَةٍ؛ فَهُدُوءُ اللَّيْلِ وَ بُرُودَةُ الْأَجْوَاءِ يَدْفَعَانِ الْإِنْسَانَ إِلَى مُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ وَ التَّمَعُّنِ فِي حَيَاتِهِ. تَبْدُو هَذِهِ اللَّحَظَاتُ وَ كَأَنَّهَا فُرْصَةٌ لِإِعَادَةِ تَرْتِيبِ الْأَفْكَارِ وَ الْآمَالِ. و هيَ فرصةُ الشُّعرَاء لإبداعِ نصٍّ شعريٍّ أو فنّانٍ تخُطُّ ريشتُهُ لوحةً معبِّرةً.

رَغْمَ قَسَاوَةِ الشِّتَاءِ وَ بُرُودَتِهِ، يَبْقَى رَمْزًا لِلدِّفْءِ الْإِجْتِمَاعِيِّ وَ التَّلَاحُمِ الْإِنْسَانِيِّ. تَعُودُ فِيهِ الْعَلَاقَاتُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَ الْجِيرَانِ أَكْثَرَ قُرْبًا، حَيْثُ تَقُودُ الظُّرُوفُ الْجَمِيعَ لِلْبَحْثِ عَنْ دِفْءٍ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى النَّارِ، بَلْ يَمْتَدُّ إِلَى دِفْءِ الْمَشَاعِرِ وَ الْقُلُوبِ.

إِنَّ رَجْعَةَ الشِّتَوِيَّةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَغْيِيرٍ فِي الطَّقْسِ، بَلْ هِيَ عَوْدَةٌ إِلَى الذَّاتِ، وَ إِلَى الطَّبِيعَةِ فِي أَجْمَلِ صُوَرِهَا، وَ إِلَى الْقُلُوبِ الَّتِي تَجِدُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فُرْصَةً لِلِقَاءِ وَ الِاحْتِفَاءِ بِالْحَيَاةِ رَغْمَ بُرُودَتِهَا.

المانيا في ١٧ نوفمبر ٢٤
__________________
fouad.hanna@online.de


التعديل الأخير تم بواسطة fouadzadieke ; 18-11-2024 الساعة 12:51 AM
رد مع اقتباس