حينَ كُنتُ في حَضْرَةِ المُتَنَبِّي بقَلَمِ: الشَّاعِرِ فُؤَاد زَادِيكِي دَخَلْتُ د
حينَ كُنتُ في حَضْرَةِ المُتَنَبِّي
بقَلَمِ: الشَّاعِرِ فُؤَاد زَادِيكِي
دَخَلْتُ دِيوَانَ المُتَنَبِّي، وَ قَدِ الْتَفَّ حَوْلَهُ وُجُوهُ النُّبَهَاءِ وَ الْأُدَبَاءِ، كَأَنَّمَا هُوَ بَدْرٌ يَتَلَأْلَأُ فِي سَمَاءِ البَيَانِ. كَانَ المَجْلِسُ مُضَاءً بِالمَشَاعِلِ، يَعْبُقُ بِعِطْرِ المِسْكِ وَ العَنْبَرِ، وَ أَصْوَاتُ القِيَانِ تَنْسَابُ كَالنَّهْرِ العَذْبِ فِي الآذَانِ. وَقَفْتُ عِنْدَ البَابِ بُرْهَةً، أَنْظُرُ إِلَى ذَاكَ الرَّجُلِ، الَّذِي مَلَأَ الدُّنْيَا وَ شَغَلَ النَّاسَ، فَإِذَا هُوَ فِي أَبْهَى حُلَّةٍ، تَكْسُو وَجْهَهُ مَهَابَةُ المُلُوكِ، وَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنَيْهِ شَرَارَةُ الذَّكَاءِ وَ الِاعْتِدَادِ بِالنَّفْسِ.
تَقَدَّمْتُ نَحْوَهُ بِخُطًى وَقُورَةٍ، وَ انْحَنَيْتُ تَحِيَّةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَ قَالَ:
"مَنْ أَنْتَ، وَومَاذَا تُرِيدُ مِنْ مَجْلِسِ الشُّعَرَاءِ؟"
قُلْتُ، وَ أَنَا أُحَاوِلُ أَنْ أَثْبُتَ أَمَامَ عَظَمَتِهِ:
"أَنَا عَاشِقٌ لِلشِّعْرِ، جِئْتُ أُنَازِلُكَ فِي مِضْمَارِ البَيَانِ، وَ أُجَارِيكَ إِنِ اسْتَطَعْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا."
ابْتَسَمَ المُتَنَبِّي، تِلْكَ الابْتِسَامَةُ، الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ ثِقَةٍ لَا تَزَعْزُعَ فِيهَا، وَ قَالَ:
"أَهْلًا بِمَنْ طَمَحَ إِلَى العَلْيَاءِ، فَهَلْ جِئْتَ بِزَادٍ كَافٍ لِرِحْلَةِ المُنَافَسَةِ؟"
جَلَسْتُ بَيْنَ الحَاضِرِينَ، وَ قَدْ تَهَيَّأَ المَجْلِسُ لِلْمُبَارَزَةِ، وَ أَخَذَ المُتَنَبِّي يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتِهِ:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ
فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَأَجَبْتُهُ، وَ قَلْبِي يَخْفِقُ بَيْنَ الضُّلُوعِ:
تَسَامَيْنَا إِلَى نَيلِ العُلُومِ
عَسانَا في مُلاقَاةِ النُّجُومِ
ضَجَّ المَجْلِسُ بِالْإِعْجَابِ، فَرَفَعَ المُتَنَبِّي حَاجِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ مُتَحَدِّيًا:
أَنَا الَّذِي نَظَرَ الْأَعْمَى إِلَى أَدَبِي
وَوأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ
فَأَجَبْتُ، مُحَاوِلًا أَنْ أَرْتَقِيَ إِلَى شِعْرِهِ:
أَنَا المُغَرِّدُ يَسْمُو فِي بَلَاغَتِهِ
أُنَادِمُ المَجْدَ وَالأَفْذَاذُ قَدْ عَلِمُوا
ابْتَسَمَ المُتَنَبِّي، وَ أَلْقَى عَلَيَّ نَظْرَةَ إِعْجَابٍ مَمْزُوجَةً بِالدَّهْشَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الحَاضِرِينَ وَ قَالَ:
"هَذَا فَتًى طَمَحَ كَمَا طَمَحْتُ، وَ جَرَّبَ كَمَا جَرَّبْتُ، غَيْرَ أَنَّ المِيدَانَ لَا يَسَعُ إِلَّا وَاحِدًا!"
فَأَجَبْتُهُ، وَ قَدْ أَحْسَسْتُ أَنَّنِي فِي حَضْرَةِ جَبَلٍ لَا يُزَحْزَحُ:
"وَ أَنَا يَا أَبَا الطَّيِّبِ مَا جِئْتُ لِأُزَاحِمَكَ فِي سُمُوِّكَ، بَلْ جِئْتُ لِأَنْهَلَ مِنْ بَحْرِكَ، وَ أَغْتَرِفَ مِنْ بَلَاغَتِكَ، فَالشَّمْسُ لَا تُضَاهَى وَزلَكِنَّهَا تُضِيءُ مَنْ يَسِيرُ فِي دَرْبِهَا."
فَهَزَّ رَأْسَهُ مُقِرًّا، وَ قَالَ بِصَوْتٍ وَقُورٍ:
"لِلَّهِ دَرُّكَ! فَهَكَذَا يَكُونُ السَّائِرُونَ عَلَى خُطَى المَجْدِ، وَ مَنْ طَمَحَ إِلَى العُلَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِمَّةٍ تُجَارِي الصُّقُورَ."
وَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، شَعَرْتُ أَنَّنِي وَ إِنْ لَمْ أُنَافِسْهُ، فَقَدْ نِلْتُ شَرَفَ الجُلُوسِ فِي مَجْلِسِهِ، وَ سَمَتْ رُوحِي بِوَهَجِ البَيَانِ، فَغَادَرْتُ الدِّيوَانَ وَ أَنَا أَحْمِلُ فِي صَدْرِي شُعْلَةً لَنْ تَنْطَفِئَ.
أَلْمَانِيَا فِي ٩ شُبَاطَ ٢٠٢٥
__________________
fouad.hanna@online.de
|