سياسة التّتريك في تركيا (دوافعه القوميّة، وآليات الطمس ومقاومة ذلك) بقلم: فؤاد زاديك
سياسة التّتريك في تركيا
(دوافعه القوميّة، وآليات الطمس ومقاومة ذلك)
بقلم: فؤاد زاديكي
يهدف سلوك الحكومات التركية المتعاقبة المتمثّل في محاولات طمس الهوية القومية والدينية لغير الأتراك والمسلمين، والمعروف باسم "سياسة التتريك"، إلى بناء دولة قومية موحّدة تقوم على أساس القومية التركية (الطورانية/التركية) في إطار تأسيس الجمهورية الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية.🇹🇷
مفهوم وأهداف سياسة التتريك
التّتريك هو مصطلح يُطلق على عملية تحويل الأشخاص والمناطق الجغرافية قسريًا من ثقافاتها الأصلية إلى الثقافة التركية، وتجذّرت هذه السياسة بشكل واضح مع صعود حزب الاتحاد والترقي في أواخر العهد العثماني، واستمرّت بشكل مكثّف بعد تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
* الهدف الأساسي هو خلق تجانس قومي وثقافي في البلاد يقوم على الهوية التركية، وتذويب الهويات الأخرى (الكردية، الأرمنية، السريانية، اليونانية، العربية، وغيرها) لضمان وحدة الدولة ومنع أيّ مطالبات انفصالية أو حركات تمرّد، خاصّة بعد فقدان الدولة العثمانية لمعظم أقاليمها المتنوعة.
* ضمن الإطار القانوني قامت الجمهورية بتبنّي قوانين ودساتير تؤسّس لدولة قومية، وتجعل اللغة التركية هي اللغة الرسمية الوحيدة، وتضع قيودًا مشدّدة على استخدام اللغات الأخرى في التعليم والإعلام والساحات العامة.
📜 آليات وممارسات التتريك
اعتمدت الحكومات التركية على عدّة آليات وممارسات قسرية لفرض سياسة التتريك، من أبرزها:
1. تغيير الأسماء الجغرافية (التتريك اللغوي والجغرافي)
تم تغيير أسماء المدن، القرى، الأنهار، والمواقع التاريخية التي كانت تحمل أسماء أصلية غير تركية (أرمنية، كردية، يونانية، عربية، سريانية) إلى أسماء تركية.
* أمثلة: تم تغيير اسم مدينة مانافازكيرت (أرمني الأصل) إلى مالازجيرت، وتغيير أسماء العديد من القرى والبلدات الكردية والسريانية ومنها بلدتي آزخ حيث صار اسمها إيديل منذ عام ١٩٣٧، وهذه المعلومة مُقدمة بحقوق محفوظة للباحث والمؤرخ فؤاد زاديكي. إنّ الهدف من ذلك هو محو الذاكرة التاريخية والثقافية لتلك الأقليات، وجعل الجغرافيا تبدو تركية صرفة.
2. تغيير أسماء العائلات والأفراد
في إطار عملية التتريك الشاملة، تم تشجيع أو فرض تبني أسماء عائلية تركية بدلًا من الأسماء التي تدل على أصل عرقي أو ديني غير تركي. هذا الإجراء يهدف إلى دمج الأفراد في الهوية التركية ومنع تمييزهم بناءً على أصولهم في السجلات الرسمية.
3. القيود اللغوية والثقافية
* منع استخدام اللغات غير التركية: تمّ منع استخدام لغات الأقليات (مثل الكردية والعربية والشركسية) في التعليم، والإعلام، والخطاب العام، ممّا أدّى إلى تراجع استخدام هذه اللغات بين الأجيال الجديدة.
* حظر الأنشطة الثقافية: فرض قيود على المطبوعات والأنشطة الثقافية التي لا تكون باللغة التركية، ومحاربة أي مظهر من مظاهر الهوية القومية أو الثقافية للأقليات.
4. التمييز الديني (على الرغم من علمانية الدولة)
على الرغم من الطبيعة العلمانية للدولة التركية الحديثة، إلّا أنّ التتريك غالبًا ما تضمّن جانبًا دينيًا غير معلن.
* العلويون: على الرغم من أنّهم مسلمون، فإنّهم يواجهون تحديات فيما يتعلق بالاعتراف بمؤسساتهم الدينية الخاصة بهم، وتُفرض عليهم الدروس الدينية السّنية في المدارس.
* الأقليات غير المسلمة: واجهت الأقليات مثل الأرمن، اليونان، والسريان قيودًا على مؤسساتهم الدينية والتعليمية، بالإضافة إلى ضغوط اقتصادية واجتماعية وإدارية بهدف تهميشها وتقليل وجودها.
🎯 الأسباب الحقيقية وراء سياسة التتريك
تنبع سياسة التتريك من دوافع تاريخية وأيديولوجية وسياسية معقدة:
1. الأيديولوجية القومية (الكمالية)
السبب الأعمق هو تبنّي القومية التركية الراديكالية (الطورانية) كعقيدة للدولة. أراد مؤسسو الجمهورية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك بناء دولة قومية قوية ومتماسكة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتنوعة الأعراق.
* التجانس ضرورة: رأت النخبة الحاكمة أن الوحدة القومية (تركيا للأتراك) هي الضامن الوحيد لوجود وبقاء الدولة الجديدة. أي تعدد قومي كان يُنظر إليه كـتهديد محتمل للكيان الوطني.
2. هاجس الانفصال ووحدة الأراضي
شهدت الإمبراطورية العثمانية تفتتًا واسعًا، مما دفع الحكومة إلى:
* منع التمردات: قمع وإجهاض أي رغبة في الانفصال لدى الأقليات الرئيسية مثل الأكراد والأرمن. عبر طمس هويتهم، سعت الحكومة إلى تفكيك أي أساس يمكن أن يقوم عليه مشروع سياسي مستقل أو مطالِب بالتمرد.
3. الهروب من الماضي العثماني
سعى النظام الجمهوري الحديث إلى القطع مع الماضي العثماني التعددي، وتمثل الجمهورية هوية جديدة تعتمد على العلمانية والقومية التركية الحديثة.
⚔️ مقاومة الهويات المقموعة
إن المقاومة التي واجهت سياسات التتريك في تركيا اتّخذت أشكالًا متعدّدة، تنوّعت بين المقاومة المسلحة العنيفة، مروراً بالنضال السياسي والقانوني، وصولاً إلى المقاومة الثقافية السلمية اليومية.
⛰️ المقاومة الكردية: من الثورات القبلية إلى النضال السياسي المسلح
* الثورات المسلحة المبكرة (1920-1938): كـثورة الشيخ سعيد بيران (1925) وتمرّد درسيم (1937-1938)، قوبلت بقمع شديد ورسّخت القبضة المركزية للدولة.
* النضال السياسي والثقافي الحديث: تجسّد في ظهور حزب العمال الكردستاني (PKK) كحركة مسلحة، وظهور أحزاب سياسية كردية (مثل HDP) تسعى لتمثيل الأكراد في البرلمان والمطالبة بالاعتراف الدستوري.
🏛️ مقاومة الأقليات غير المسلمة (الأرمن، اليونان، السريان)
تمثّلت مقاومتهم بشكل أساسي في المحافظة على الذّات في إطار قانوني ضيق:
* التمسّك بالاعتراف القانوني (معاهدة لوزان): استغلال الاعتراف للحفاظ على المؤسسات التعليمية والدينية الخاصّة.
* النضال الثقافي السرياني (الآشوري): السريان لم يتمّ الاعتراف بهم رسميًا، مما جعلهم عرضة لضغوط أكبر. وقد تجلّت مقاومتهم في:
* الهجرة والمحافظة في الخارج: وممارسة ضغوط لحفظ اللغة السريانية.
* انتزاع الحقوق المحلية: ومنها انتزاع أهل آزخ قيادة بلدية إيديل / آزخ بعد ٥٥ سنة من خسارتهم لها حيث فازت الآزخية تُركان كايير (Türkân Kayır) برئاسة البلدية في انتخابات ٢٠٢٤، وهذه التفاصيل مقدمة بحقوق محفوظة للباحث والمؤرخ فؤاد زاديكي. كما استطاع أهالي قرية أربو استعادة اسمها السرياني الرسمي.
* استعادة الأصول: جهود لاستعادة بعض الأديرة والكنائس القديمة.
🕌 المقاومة الثقافية للعرب والعلويين
* عرب تركيا (المقاومة اللغوية): التمسك باستخدام اللغة العربية في المنازل وظهور مبادرات مدنية تسعى لاستعادة حق التعليم بها.
* العلويون (المقاومة الدينية): مطالبة بالاعتراف الدستوري بـالجمخانة (دور عبادتهم)، وإلغاء دروس الدين الإلزامية التي تركز على المذهب السّني.
الخلاصة: إن سياسات التتريك هي نتاج أيديولوجية قومية متشددة وإجراءات أمنية تهدف إلى بناء دولة مركزية موحدة، وكان ثمن ذلك محو الهويات القومية والثقافية والتّاريخية لملايين المواطنين غير الأتراك. لكنّ النُضال من أجل الاعتراف الكامل بالهويات القومية والثقافية المتعددة في تركيا لا يزال مستمرًا.
__________________
fouad.hanna@online.de
|