عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-08-2014, 03:19 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,743
افتراضي الخديعة الكبرى العرب بين الحقيقة والوهم 9 ياسين المصري الحوار المتمدن-الع

الخديعة الكبرى العرب بين الحقيقة والوهم 9


الخـلفـاء "الـراشـدون" وغيرهم

فنحن المالكـون للناس قــسراً نسـومهم المذلة والنكالا
ونوردهم حـياض الخسف ذلاًّ ومـا نألــوهم إلا خـبـالا*1*
وليد بن يزيد بن عبد الملك

ـ الصـعالـيك تحـت السـقيفة "التـعـريشة"
ـ أبو بكـر وعمـر وعـثمان وعـلي
ـ الصـعالـيك خـارج مـوطـنـهم
ـ الـنتـيـجـة

بنفس الأسلوب الوثني المقدس للأماكن " المشـرفة والمكـرمة والمنـورة والمطهرة والمعطرة ... إلخ " أصبح خلفاء صلعم الأربعة بالتوالي وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي " راشدين "، ولا مانع من أن يضاف إليهم ـ أحيانا ـ خامس هو عمر بن عبد العزيز تبعا للهوى النفسي والحماس الديني، دون أن يعرف المرء لماذا تكون بعض الأماكن مشرفة أو مكرمة أو منورة على غيرها ويكون بعض الأشخاص راشدين من دون الآخـرين؟. هل لأن البعض منا لا يمكنه التفريق بين التشـريف أو التكريم أو التنوير أو الـرشد من عـدمة، أو لأنها جميعها عملة نادرة أو معدومة بين البشر بوجه عام، وبين الـعـربان بوجه خاص؟.

لنبحث إذنْ في الكتب الإسلاموية المقدسة عن رشد أولئك الـراشدين، دون غيرهم. ومدى التزامهم بالأسوة الحسنة، وما إذا كانوا يرجـون الله واليوم الآخـر أم كانوا يرجـون أنفسهم ويومهم في الحياة الدنيا؟

فبوفاة صلعم أحيل الملاك العبراني المدعو جـبريل إلى التقاعـد وأغلقت السماء أبوابها، وسدت نوافذها، وانقطعت الطـرق المؤدية إلى الأرض، وظل الطـريق المعاكس مفتوحا لمن يريد رضاء ربه، والجهاد في سبيله كي يدخل الجـنة ويستمـتع بملذاتها. وانتهت بذلك " حكومة الله " أو كما أسماها العشماوي « حكومة النبي أو حكومة الدعوة*2* »، لتبدأ حتى وهو على فراش الموت " حكومة الصعاليك "، فإله البدو ونبيهم لم يحددا من يخلف صلعم، أو طريقة معينة لاختيار خليفته، كما أنهما لم يضعا قـواعد محددة وواضحة لأصول الحكم وطـريقة تسـييره وكـيفـية توزيع الغنائم والنفقات المالية ـ بعد موته ـ والتي اختلف عليها المتأسلمون أكثر من مرة أثناء حياته، والحد من استغلال الدين الجديد بشكل مفرط وسافر في السعي الحثيث إلى تحقيق المصالح الشخصية. الأمر الذي أصبح قاعدة عامة منذ ذلك الوقت وحتى الآن. ولكن يبدو من وضع صلعم بين رفاقه ومن الأحداث التي سبقت موته مباشرة أنه لم يكن باستطاعته أن يفعل ذلك. ولذلك لم يتم استدعاء الوحي ليقول كلمته، وأغمض إله البدو عينيه عنه عامدا متعمدا، ليترك المجال واسعا لقرائح العملاء والمنافقين والأفاقين ومن هب ودب ليدلي بدلوه، ويجتهد ويتبارى مع غيره في اجتهاد ـ ما هو إلا فـبْرَكة ـ بلا حدود أو ضوابط، لأنه سوف يكافأ دائما من قبل ذلك الإله المصطنع، فإن أصاب له أجـران وإن خاب فله أجـر، عملية قمار مدعومة بوعد كاذب ولكن عواقبها وخيمة، طالما تختص بالشـؤون الحـياتيـة للبشـر.

وهذه في حد ذاتها كارثة عُرْبانية كبرى حلت بنا ومازلنا نعاني مـنها حتى الـيوم، إذ أن شؤوننا السياسية اليومية والمستقبلية على المستويين الفـردي والجماعي لا تتم معالجتها إلا من قبل شيخ البلد أو شيخ القبيلة أو أي قاطع طـريق يقفذ على السلطة ليغتصبها لنفسه، ليكون "ولي الأمـر" وحده، بالطبع سوف يساعده في ذلك جمع غـفـير من الجلاوزة (الصحابة) الدجالين والمنافقين والنمامين وأصحاب المصالح الذين يلتفون حـوله ويغلقـون عليه منافـذ العقل ومسالك العـدل. وإذا عـرفنا في يوم ما مؤسسات الدولة التي تطبِّق القانون بقدر ما من الحيادية، وتعالج مشاكلنا الحياتية بقدر ما من الكفاءة والاقتدار، قام من بيننا من يعمل على إزالتها لأن له في رسول الله أسوة حسنة، ليجلس هو وحده فوق الجميع، ويتحكم هو وحده في شؤون الـرعـية. وشؤون الـرعية عنده ليست سوى النظر إلى الأرض والتهام العشب في صحراء شاسعة ومليئة بالصخور والرمال.

وراحت تكتمل فصول الكارثة الأبدية في ظل تعـريشة أو "سقيفة" بني ساعدة في يثرب.

الصـعالـيك تحـت السـقيفة أو "التعـريـشة"

توفى صلعم ـ تبعا للموروث الإسلاموي ـ في يوم 632/6/18هـ وخوفا على مراكزهم من إعلان وفاته، تركة أصحابه من الصعاليك المبشرين بجنته ثلاثة أيام دون دفن حتى فاحت النتانة من جثته.

توفى نبيهم ولم يحققوا له "أمنيته الأخيرة" قبل موته، ففارقهم تاركا لهم إرثا مثقلا بالأكاذيب والخداع والأضاليل، وكلمات مطاطة وغامضة ومتضاربة ومتناثرة هنا وهناك، قال عنها إنها وحي من السماء. ولم يؤسس دولة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه عمل على إخضاع قبائل العـربان لسيطرته بالعنف والإرهاب، وراح يحكم فيها بالوحي القـرآني والسيف البتـار، تماما كما يحكم من يطلقون على أنفسهم لقب ملك أو رئيس في جميع دول الشـرق الأوسط، وكل منهم بإحدى يديه رجال الدين وسدنته العملاء وبيده الأخـرى كل أجهـزة الدولة القمعية. ولذلك لم يعمل صلعم على وضع قواعد لدولة ما، ولم يتطـرق قط سواء عن طـريق الوحي القرآني المزعوم أو أحاديثه "الموثقة" أو الملفقة عن الأسلوب الواجـب اتباعه لاختيار خليفة له بعد موته. فهو لم ينشئ دولة بالفعل، ولم يكن يعرف مع إلهه أن دولة ما سوف تنشأ من بعده!!

لا شك أن أولئك الصعاليك كانوا على قناعة تامة بأن الدين الجديد ليس إلا وسيلة لتحقيق مآربهم السياسية، وإلا ما اختلفوا على شيء بعد موت نبيهم، وما ظهرت مطامعهم السياسية على سطح الحياة هكذا بشكل سافر وصريح حتى وهو على فـراش الموت. فهل أخذوا الدين الجديد بجدية تامة لخوفهم من عقاب "الله" كما يزعمون؟ وهل اختلفوا حقيقة من أجل الدين أم من أجل تحقيق مآربهم الدنيوية؟ ألم يكن لهم في نبيهم أسوة حسنة تأسوا بها بشكل كامل؟ أليس من حق أي إنسان يتمكن من استعمال عقله أن يسأل هذه الأسئلة وغيرها؟ بعد أن عرفنا أن صلعم نفسه عاش لنفسه، وجعل أصحابه يعيشون لأنفسهم بالـمـثل، كما لو كانوا يعيشون أبدا، فكانوا جميعا قـدوة لغـيرهم.

تجمع كتب التاريخ التراثية على شيئين متناقضين، الأول هو أن صلعما كان أميا لا يقـرأ ولا يكتب، والثاني هو أنه وهو على فـراش الموت كان يود كتابة شيئا ما، لن يضل المتأسلمون بعده أبدا (ونسي العملاء الملفقون قولهم: إنه كان نبيا أميا، لا يكتب ولا يقـرأ)، وهكذا بعد تلك الحياة الطويلة، يود أن يكتب لهم في عجالة وهو على شفا الموت شيئا لن يضلوا بعده أبدا !!!. فرفض عمر بن الخطاب إعطاءه ورقة وقلم لكتابته، قائلا إنه « يهـزي، ويكفينا القـرآن »، وانقسم الحاضرون إلى فريقـين بين الـرفض والـقـبول، فطـردهم صلعم جميعا من أمامه.

وبطبيعة الحال المشبع بالتكهنات والتلفيق، يدور كثير من اللغـط والجـدل حول هذه الحادثة، فالشيعة من ناحيتهم يحاولون الاستفادة منها بزعمهم أنه كان يريد تسمية علي بن أبي طالب خليفة له، ويستشهدون على ذلك بأنه كان قد طلب من جميع كبار الصحابة ـ دون علي ـ الانضمام إلى جيش زيد المتجه إلى محاربة الرومان في الشمال. لكن يمكن لأي إنسان يستطيع استعمال عقله أن يقول ـ وبقدر كبير من الثقة ـ إنه كان يريد إعلان ندمه وتوبته عما بدر منه من موبيقات وجرائم في حياته، والاعتذار عن هذا الدين الكاذب المضلِّل، إذ كيف يقول في نهاية حياته إنه يود كتابة شيئا لن يضل المتأسلمون بعده أبدا؟؟ لا شك أنه كان يعرف حق المعرفة أنه جاء لهم بالضلال، ويريد الآن وهو على فراش الموت أن يتبـرأ منه. إذ كيف ينسجم أو يتفق هذا مع ما قاله في «حجة الوداع»: قد تركـت فيكم ما إن اعـتصـمتم به فـلن تضـلوا أبدا: كتاب الله وسنة رسـوله!!! أو ما قاله على لسان إلهه: {اليوم أتممت لكم دينكم} ... إلى آخـر الآية.

ويبقى هنا سؤال مهم، هو: لماذا فضَّل ابن الخطاب ومن معه إبقاء المتأسلمين على ضلالهم؟؟ أو أن يضلوا فيما بعـد وإلى الأبد، ولماذا لم يستمع إلى كلمة نبيه الأخـيرة؟؟ فلطالما استمع إلى أقواله وأطاع أوامره!!! إنها حقا لمهـزلة كـبرى ومنقطعة النظـير!!!

وما أن غاب ذلك البدر، الذي لا يكف العملاء عن إسعاد طفولتنا التعيسة بطلوعه من ثنيات الوداع على الأنصار قبل عشر سنوات وتشريفه مدينتهم، حتى اجتمعوا في تعـريشة بني ساعدة لـيتدارسوا أمــرهم ويحــددوا مستـقبـلهم السياسي، واتفـقـوا عـلى تولـية السلـطـة لسعـد بن عـبادة، الذي كان مريضا، ولم يمنعه مرضه من الحضور. فخطب فيهم موضحا حقهم في الحكم. ووصل الخبر إلى عمر فآسرع إلى أبي بكر وكان مع علي يشرفان على تجهـيز جثمان النبي للدفن، فخـرج مع عمر إلى السقيفة، وفي الطريق انضم إليهما عبد الرحمن بن عوف.

وتحت التعريشة نشبت بينهم وبين الأنصار مشادة كلامية حادة، وخلاف شديد على الخلافة، كاد أن يتحول إلى نزاع دموي يقضي على مستقبل الإسلام ومستقبلهم جميعا، لولا أن اتبع أبو بكر أسلوب الترغيب والمـداهنة، وقال للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقاطعه الحباب بن المنذر مطالبا بحق الأنصار في الرئاسة، وقال: فإن أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير، بمعنى أن يتقاسم الفريقان السلطة بالتناوب. ولكن عمر رد عليه بعنف قائلا: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، فاشتعل الشجار وامتشق الحباب سيفه استعدادا للقتال، ولكن تمكن الحاضرون من تجـريده منه.

وظل يتبع أبو بكر أسلوب الترغيب وعمر أسلوب الترهيب، وعبد الرحمن أسلوب التلطيف والتخدير، حتى انتهى الأمر إلى مبايعة أبي بكر. ولكن سعد بن عبادة رفض أن يبايعه، فهـدده المهاجرون وعلى رأسهم عمر بقولهم: « لئن نزعت يدا من طاعة أو فرقت جماعة لنضـربن الذي فـيه عـينيك » ورد عـليهم سـعـد الـمـعـروف بصـلابته: « والله لن أبايع حتى أرميكم بما في كنانتي وأقتلكم بمن تبعني من قومي وعشـيرتي ». واعـتزلهم بعـد ذلك، وبقى على مقاطعته لهم حتى جاء عمر على رأس السلطة، فاستدعاه وطلب منه المبايعة فقال له سعد: إن من قبلك كان أحب إلي منك، فرد عليه عمر: من لا يحببنا عليه أن يفارقنا. وكانت هذه إشارة صـريحة لسعد بأن يغادر البلاد، والعيش في سوريا. فكان بذلك أول " شخص منفي " من المتأسلمين. ولكن تم اغتياله بعد ذلك، وأشيع بين العربان في يثرب أن الجـن قـتـلـته لخـروجه عـن طـاعـة أمير المؤمنين.

وباختيار أبي بكر خليفة تم تأجيل النزاع الدموي بين المتأسلمين إلى وقت لاحق، إذ أوجد الحوار في السقيفة من السبل والمـبررات ما يكفي لتعميق الدين في الشؤون السياسية وبقـدر يسمح بتطويعه كي يدعمها بشـكل أقوى، الأمر الذي أصبح قاعدة عامة على مـر التاريخ. فقد ظهر التهافت على السلطة بوضوح بين الجميع، ولكن تحت غطاء من الدين والادعاء بالحرص عليه من أن يقع فريسة لفتنة تقضي علـيه في بدايته، ومن ثم على معتنقيه، وعلى المزايا السياسية التي حققوها قضاء لا يعلم مداه إلا الله، على حد قول العملاء الملفقين.

ولكن ألم يكن يعلم "إله البدو الصحـراوي" ما سوف يحدث بعد وفاة نبيه ورسوله، وهو الذي ذكـر عشـرات المـرات على طـول القرآني وعرضه أنه يعلم ما يُسِـرُّون وما يعلـنون وإنه عليم بذات الصدور، وأنه بكل شئ عليم خبير ... إلى آخره؟ ولماذا ترك البدو يقعون فريسة للصراع على السلطة والغنائم، ويترك المتأسلمين يتخبطون في شؤون دينهم وحياتهم. هل هي مشيئته المزعومة وقضاؤه الذي لا راد له؟ أم أنه نسي كعادته ما قاله من قبل؟

منذ ذلك الوقت التعيس وحتى هذا الوقت الأتعس منه، بدأت تتشكل جماعات وتكتلات، وعصابات سـرية وغير سـرية، وقد يصل البعض منها إلى الحكم وقد لا يصل، ولكنها جميعها تتفق في شيء واحد هو السرقة والسلب والنهب والظلم والقتل تحت غطاء كثيف من تعاليم الإسلام والأسوة الحسنة برسول الأسلمة.

ويقول العشماوي عما حدث تحت التعريشة: « وطوال هذه الصراعات وتلك الخلافات لم تُـثر على الإطلاق مسألة الإيمان بالله، أو وحدانيته ...، أو نبوة النبي، أو صدق الرسالة، أو سلامة الوحي، أو صحـة القرآن، أو أركان الإيمان، أو إنكار الصلاة، أو تطبيق أحكام الشريعة، أو العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين.... إنما دارت الخلافات واشتدت الصراعات حول السلطة (أي الأمـر) وعن الميراث (أي الأرض)*3* ». أي أن الأمـر برمته لم يكن سوى سعيا حثيثا إلى تحقيق المصالح الشخصية، وصـرعا عنيفا من أجل الاستحواذ على السلطة والنفوذ، وأن دين صلعم هذا ما هو إلا أداة فقط لتمكين الأطـراف المعنية من ذلك، تماما كما يحـدث دائما وأبدا في هـذه المنطقة الموبوءة بالأسلمة (القهرية) والتأسلم (الوراثي).

أبو بكـر بن قـحـافـة

فازت جبهة أبي بكر وعمر « لأنها أحسنت التكتيك وسعت إلى هدفها بغض النظر عن أي عواطف من أي لون حتى لو كانت دينية، واستغلت بدهاء كل ضعف ممكن في الجبهات المقابلة*4* ». وتولى أبو بكر الخلافة وأصبح أميرا للصعاليك، فوقف وألقى كلمة حدد فيها معالم سياسته، قال فيها: « أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخـيركم، فإن أحسنت فإعينوني، وإن أسأت فـقَـوِّموني، الصدق أمانة والكـذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، إن شاء الله لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالـذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم ».

ومن الطبيعي أن يطول حديث المتأسلمين حول هذه الكلمات المعسولة لأنها تبدو لأول وهلة وكأنها ركـيزة قـوية من ركائز الديموقراطية وحقوق الإنسان في العصر الحديث، كما يدعون، فهي:
1. تقر بمشاركة الناس في أسلوب الحكم ومراقبتهم للحاكم ومحاسبته إن أخطأ.
2. تقر بالعدل والمساواة في الحكم بين الناس.
3. تشير إلى تواضع الحاكم أمام المحكومين، والاعتراف بأنه ليس أفضل من غيره للمنصب.
4. وتؤكد على إن السلطة لا يمكن أن تكون مطلقة في الدولة دون غيره ، ومن ثم تقر بحق الشعب في مقاومة الحاكم المستبد والثورة عليه.
ولكنها في نفس الوقت:
1. تعتبر أسلوب الحكم اجتهادا من الحاكم، فإن أحسن يلقى العـون وإن أساء يلقى "التقويم" دون ذكر لكيفيته، ودون وضع آلية محددة، أو تعيين هيئة خاصة تقوم بمراقبته، وقد تمنعه من الإساءة قبل وقـوعـها.
2. لم تأخذ مكانها بثبات لا في أسلوب حكم أبي بكر نفسه ولا في أي من أساليب الحكم اللاحقة. ومن الإنصاف القول بأن الالتزام بها وبتطبيقها ارتبط منذ ذلك التاريخ وحتى الآن بشخص الخليفة أو الحاكم وبالعوامل التي أدت به إلى اعتلائه منصب الرئاسة، وبالظـروف التي أحاطت به وأيضا بناء على ما يحدثه الجلاوزة حوله من أثر عـلـيه.
3. لا بد أن يتساءل المرء عن الأسباب والدوافع من وراء حـديث أول خليفة للبدو العربان المتأسلمين في بداية خلافته عن الكـذب والتحـذير من شيوع الفاحشة بينهم، مالم تكن هذه وغـيرها من الأمور التي تحدث بالفعل، في مجتمع لم يعرف غيرها سابقا أو لاحقا.
4. من الملاحظ أنها لم تدعو إلى التسامح، بل تحث على مواصلة "الجهاد" في صورته الدينية وجوهره العسكري والاقتصادي والسياسي المعروف، حتى لا يضربهم الـذل، وهذا ما تعتمد عليه كافة الجماعات الإسلاموية الإرهابية دائما وأبدا، إذ تُـرْجِع السبب في حالة الـذل والمهانة التي يعيشها المتأسلمون الآن في كافة بقاع العالم إلى تركـهم الجهـاد.

من هنا نرى أن تلك الكلمات المعسولة تندرج تحت بند السياسة بما فيها من مداهنة وأكاذيب وخـداع، وذلك بهدف تهدئة الخـواطـر الجامحة والنفوس الغاضبة إلى حين، لا أكـثر ولا أقـل.

دامت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر، عمل خلالهما على محاربة المنشقين عليه والمعارضين له، الذين جمعتهم كتب التراث ظلما وبهتانا تحت إسم "المرتدين" عن الإسلام. فلقد تم اختيار أبي بكر للخلافة في نطاق ضيق جدا، ولم يكن لأي ممن المتأسلمين خارج يثرب من القبائل والأفخاذ العربية المختلفة وأهل مكة وغيرهم أي دور فيه. ومع أن محمد تمكن بوحـيه وسيفـه من إخضاع الجميع تحت سيطـرته، إلا أن الكـثيرين منهم إنشقوا عليه أكـثر من مـرة، لـميلهم الـبدوي الفطري إلى عدم الخضوع لحاكم فرد من خارج نسبهم. وعندما وجدوا أن أبا بكر قد اختير لمنصب الخلافة دون مشاركتهم قالوا على لسان شاعرهم الحارث بن سراقة:

أطعنا رسول الله مادام بيننا فياقوم ماشأني وشأن أبي بكر
أيورثنــــا إذا كان بــعـــــــده وتلك لعمـر الله قاصـمة الظــهر

وانقلب الكثيرون ممن تأسلم في حياة النبي لعدم قناعتهم بالدين الجديد، ورجعوا إلى دياناتهم القديمة بعد وفاته، فعادوا إلى عبادة الأشجار أو الصخور أو القمر أو اتبعـوا " أنبياء " آخـرين ظهــروا في قبائلهم مثل مسيلمة بن ثمامة في قبائل حـنيفة واليمامة وطليحة الأسدي في قبائل أسد وطيء وسجاح بنت الحارث التميمية وخالد بن سنان العبسي والأشعث بن قيس الكندي وكـثيرين غـيرهم. وراح أولئك المتنبئون يشـرعون لهم بغير ما جاء به محمد، فمسيلمة مثلا ألغى عن قومه صلاتي العشاء والفجـر، وأوعـزت سجاح إلى بني تميم بالتخلي كلية عن الصلاة، بينما أمـر طلحة الأسدي قومه بعدم السجود في الصلاة، قائلا: « إن الله لا يصنع بتعفر وجوههم وتقبٌّح أدبارهم شيئا ».

وهناك من ظلوا متأسلمين ولكنهم امتنعوا عن دفع الزكاة للحكومة المركزية في مكة برئاسة أبي بكـر، وأرادوا دفعها للفقـراء والمساكين الذين يعيشون معهم، ومع أن هذا الأمـر مجـرد خلاف فقهي تم حله فيما بعد بدفع الـزكاة في أماكن دافعـيها، إلا أن ابن قحافة أصر على محاربة الجميع، إذ بدا الأمـر وكأنه محاولة من العـربان لضرب حكمه من خلال إفشال سياسته المالية والاقتصادية المتبعة لتمويل الجيوش ومواصلة تصديـر الشوكة القتالية لأتباعـه من يـثرب إلى خارجها، ليغتصبوا أراض ومغانم جديدة، ومن ثم يتخلص من متاعبهم، ويشبع نهمهم إلى حب التملك والتسلط.

وطلب بعض الصحابة من أبي بكر أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة، « إلى أن يتمكن الإيمان من نفوسهم ، فيعودوا إلى آدائها »، ولكنه رفض ذلك. وبدأ الكذب على الناس منذ تلك اللحظة، فعندما قال له عمر بن الخطاب، المتعطش دائما للدماء: « سمعت رسول الله يقول أُمِـرت أن أقاتل الناس حتى يقولون لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابها عند الله »، فرد عليه أبوبكر بقوله: « وأنا سمعت رسول الله يقول أيضا: أُمِرت أن أقاتل الناس على ثلاث: شهادة ألا لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة »، وقرر محاربتهم حتى وإن كان وحده. فتراجع عمـر (الدموي) عن موقفه قائلا: « فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق »، إنهم إذن يعـرفون الحـق فقط عندما تنشرح صـدورهم للقتال !!.

منذ ذلك الوقت بدت " فبركة "، الدين الجديد تظهر بوضوع في سلوك الصحابة وتصـرفاتهم بعد موت نبيهم ومن ثم واصلوا نشره بحد السيف على الشعوب الأخـرى المجاورة لهم وفرضه عليها بهدف اعتلائها وسلب أو نهب خيراتها وسبي أو اغتصاب نسائها وإذلالها نفوسهم إلى أبد الآبدين، وكان لا بد وأن يقترن ذلك بالخرافات، « وهذه الخرافات أحالت المسلمين من غير العرب إلى عملاء لأسيادهم العرب ـ زبائن ـ يجب أن يشتروا ما يباع لهم بإسم " التنوير " الإسلامي*5* »، أي " إخراج الناس من الظلمات إلى النور " ذلك الـنـور الـذي لم يرَهُ أحـد حتى الـيوم، ويبدو أن أحـدا لن يراه في الغـد القـريب.

إستعمل ابن قحافة العنف بصورة مفرطة مع المنشقين عليه والمعارضين لخلافته، بالـرغم من نطقهم بالشهادة، فأرسل إليهم عـددا من الجيوش، إحداها بقيادة خالد بن الوليد، الذي راح ينكسهم في الآبار، ويحرقهم بالنار، ويقذف بهم من شواهق الجبال، ويقطع أطرافهم ويمثل بأجسادهم، فقتل منهم عشرة آلاف، وفي بعض المصادر التراثية عشرين ألفا. وسلب أموالهم وممتلكاتهم وسبى نساءهم. وتذكر تلك المصادر أن عبد الرحمن بن عوف أخذ على خالد هذا أنه لم يتصرف معهم إلا بدافع الانتقام وتصفية خلافات قديمة من عصر قبل الأسلمة المحمدية. فلقد سبق أن كلفه محمد بأسلمة تلك القبائل وحظر عليه صراحة ألا يبادر بأعمال قتالية ضدهم، ولكنه بالرغم من ذلك قتل الكثيرين منهم، واستعمل العنف الشديد بوجه خاص مع بني جذيمة لقتلهم عمه قبل الأسلمة مع أن هذا الأمر تمت تسويته بدفع الدية. ولما علم محمد بذلك رفع يديه حتى رُئِيَ بياض (بطيه) وهو يقول : إني أبرأ إليك مما صنع خالـد!. ومع ذلك لم يعـزله عن الإمرة، بل أطلق عليه "سيف الإسلام".

وفي الغـزوات التي أمـره بها أبو بكر أقدم خالـد على قتل مالك بن نويرة بالرغم من إسلامه كي ينال زوجته. وقيل أنه أمر بقطع رأسه وطبخها في قدر مع حجرين وأكل منها لـيرهب العربان. وعندما كـثرت الشكوى منه، استقدمه أبو بكر إلى يثرب لمعاتبته، إلا أن خالـد قال له: إنه لم يأمر بقتل مالك، وإنما حدث سوء فهم من قبل الحراس، فقتلوه. فقبل أبو بكر عـذره وأبقاه قائدا بالـرغم من أن عمر بن الخطاب ألح على أبي بكر إلحاحا عنيفا في معاقبته أو عـزله على الأقل. كـذلك اتهـم خالـد بأنه كان يفكـر في ملذاته بعد موقعة اليمامة، بينما الجرحى من المتأسلمين وغيرهم مازالوا راقـدين في مـيدان القتال دون اهتمام*6*.

ويفهم من الكتب التراثية أن خالـدا هذا كان صعلوكا متطـرفا إلى أبعد حـد، إذ تقول إنه أسلم متأخرا [في العام الثامن للهجرة] وانتهت تصـرفاته إلى وضع إسلامه موضع الشك والريـبة، فقد اتهم بسـوء التهذيب والزنا والجنوح إلى العنف والخـروج على القـواعد المتبعة في تقسيم الغنائم مما حمل عمر بن الخطاب أثناء خلافته على مصادرة جـزء من أمواله لمصلحة بيت المال، وعـزله فيما بعد من جميع المناصب، ووصفه بالنفاق وأن إسلامه ليس إلا تمثيلا. وهـذا الوصف ينطبق بصورة أو أخـرى على كثير من المتأسلمين، لأن الإسلام في جوهـره يحملهم على النفاق والكذب على أنفسهم وعلى الآخـرين!!!.

وبتلك الحروب شـرَّع أبو بكر إشهار سيوف المتأسلمين على المتأسلمين أنفسهم بعد أن كانت في عهد نبيه تشهـر على غير المتأسلمين وحدهم، لأن نبيه قال: « جعل رزقي تحت سن رمحي »، وقال:« بعثت بالسيف، والخـير مع السيف، والخيـر في السيف، والخيـر بالسيف»، وقال أيضا: « لاتزال أمتي بخـير ما حملت السيف »*7*. نفس فلسفة الصعاليك التي تعـرفنا عليها سابقا. وهكذا إذا لم يحمل المتأسلمون السيف على الكفار، يحملونه على أنفسهم، حتى تبقى تلك الأمة الهزيلة بخير، وكيلا يضـربها الـذل. ولذلك يعـرف الإرهابيون المتأسلمون دائما لماذا ضـربها الذل والانحطاط بالفعل؟؟

ومن ناحية أخـرى اعـترض الهاشميون بزعامة علي بن أبي طالب وعمه العباس بن عبد المطلب وبعض من الأنصار على تولي أبي بكـر الخلافة، ورأوا أنه انـتزعها منهم عمدا. ويفيد الطـبري وغيره بأن أبا بكـر وعمـر وعـبد الرحمن بن عوف ورهط من أعوانهم ذهبوا إلى علي في بيته لإرغامه على مبايعة أبي بكـر، وهددوه بحرق البيت على من فيه، وبالفعل أمر عمر بجمع الحطب ووضعه حول البيت وهم بحرقة، ولم يكف عن ذلك إلا عندما خرجت فاطمة تبكي وتصرخ فيهم وتستنجـد بأبيها وربه.

وكان علي يضع فاطمة على جمل ويخـرج بها إلى القبائل خارج يثرب ليحـرض العربان على مبايعته هو، ولما ماتت دفنها ليلا ولم يخـبر أبا بكـر بالـوفاة.
ويواصل الطـبري قولة: « لقد كان لعلي وجه (جراءة) من الناس في حياة فاطمة، فلما ماتت إنصرفت وجوه الناس عنه. فأرسل إلى أبي بكر حتى يأتيه وحده لمبايعته. وعندما ذهب إليه أبو بكر قال له: « لم يمنعنا عن مبايعتك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا منافسة لك بخير ساقه الله إليك، ولكننا نرى أن لنا في هذا الأمـر حقا، فاستبددتم به علينا »، فقال أبوبكـر بما يفيد أنه سمع النبي يقول إن هذا الأمـر لا يورث . بعد هذا اللقاء بايع علي أبا بكر أمام الناس وتبعه بنو هاشم .

بينما روايات أخرى تقول إن عليا أراد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء عقب موت صلعم ، فتمسك بالنسطورية الروحانية التي تبناها بحيرا، ولكن قناعة أبي بكر بما حققته السياسة المحمدية من غنائم مادية ومعنوية، جعلته يرى أنه لن يجمع البدو العربان غير القتال. فاختلفا ولم يبايعه علي ويضع يده في يده إلا بعد أربعين يوما من مبايعته تحت سقيفة بني سعادة، وقيل بعد ستة أشهر بعد وفاة زوجته فاطمة بنت محمد. ولما سأله أبو بكر: ما حبسك عنا وعن مبايعتنا يا أبا الحسن؟ قال : كنت مشغولا بجمع كتاب الله، لأن النبي كان قد أوصاني بذلك، ويقال أن النسخة التي أراد علي جمعها كانت متفقة مع الإنجيل الذي دفعه نسطوريوس إلى محمد تحت إسم القرآن . ولم يقل لنا أحد هل أوصاه محمد بذلك أم لا، وما هو مصير النسخة التي أراد جمعها، وهل أحـرقت ضمن المصاحف التي أحرقها عثمان أم لا؟؟؟.

وقد وصف ابن الخطاب عملية اختيار أبي بكر خليفة بأنه كان " فلتة " وقاهم الله شرها، مع أنه ساهم فيها بشكل مباشر وبأسلوب الوعـد والوعـيد، ولم يعـرف أن الله لا يقي المغـرضين دائما من الفلتات.

ومن الجدير بالذكر أن أبا بكر حرَم فاطمة التي يفترض أنها بنت محمد من ميراث أبيها وهو أرضه في فَـدَك، وسهمه من خيبر، بحجة أنه سمع (صلعم) يقول: « إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ». فغضبت لذلك فاطمة وهجـرت أبا بكـر ولم تكلمه حتى ماتت بعد ستة أشهر من موت صلعم*8*.

وعندما شعـر ابن قحافة بقـرب موته [ذهبت بعد المصادر التاريخية إلى أن عمـر بن الخطاب قتله بالسم] لم يستشـر أحـدا في اختيار خليفة من بعده، ودعا عثمان بن عفان إليه وأملى عليه الوصية التالية: « بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن قحافة آخـر عهـده بالدنيا نازحا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا إليها، إني اخـلفـت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عـدل فيكم، فذلك ظني به ورجائي فيه، وإن بدَّل وغـيَّر، فالخير أردت، ولا أعـلـم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ». وبهذه الوصية يكون أبو بكر قد رد الجميل إلى عمر، مع أنها تدل على شكوكه تجاهه، ولكنه وضع الأمـر برمته في عـلـم الغيب وليس في أيدي الناس.

ختم أبو بكر الوصية ودفع بها إلى عمـر، ثم قام بمسـرحية سياسية، إذ جمع المتأسلمين في يثرب وأعلن عليهم أن بعيتهم له قد انتهت، وأنه في حـل منها، وعليهم أن يختاروا من يحبون كي يخلفه، وتركـهم. غـير أنهم ، كما هو متوقع دائما وأبدا، اختلفوا للمـرة الثانية، ولم يستطيعوا الإجماع على إسناد الحكم إلى أحد منهم بمن فيهم عـمـر بن الخطاب نفسه. فرجعوا إلى أبي بكر وطلبوا منه أن يختار لهم من يرى فيه صلاحا وخـيرا لهم، فطلب إمهاله لبعض الوقت بحجة التشاور مع الصحابة ووجهاء القوم من المهاجـرين والأنصار. وبعد فـترة خـرج إليهم عثمان وأعلن عليهم أن الرأي قد استقر على اختيار عمر بن الخطاب لمنصب الخلافة، وطلب منهم مـبايعته، فبايعـوه.
لا تعـليق!!.

عـمـر بن الـخـطاب

لقد أثار فضولنا أحد العملاء المتطفلين بقوله الفارغ: « ياويل من يكتب عن عمر!! ... ياويله!، ما يكاد يدخل إليه حتى يجد نفسه يسبح في بحار من نور لا يدري أولها من آخرها*9* »، ومع أن عقلنا المتواضع لا يعـرف ماهي البحار من النور هذه وأين توجد وما الصلة بينها وبين الويل، فإننا سوف نحاول الدخول إليه والسباحة في بحار نوره المزعوم حتى وإن أصابنا « الويل*10* » أو كنا لا ندري أولها من آخرها، إنها مرض المبالغة، والبحث الدائم عن أسوة حسنة واحدة بين معتنقي هذا الدين.

ولذلك يبدو من الكتب التراثية الإسلاموية، كما يبدو من موقف العملاء الملفقين تجاه عمر هذا أنه كان ذا شخصية قوية ومؤثرة على محمد نفسه، بحيث أن إله صلعم الصحـراوي كان يأخـذ بكلامه ويستجيب على الفور لمطالبه،
فقد طلب من صلعم أن يتخذ من مقام المدعو إبراهيم مُصلَّى، فجاء القـرآن يقول : {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} البقـرة 125،
وقال لصلعم إن نساءك يدخل عليهن الفجار فلو أمرتهن أن يتحجبن، فجاءت على الفور آية الحجاب {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يأذن لكم .....} الأحزاب 53.
وعندما اجتمع نساء صلعم في الغيرة عليه وفيهم ابنته حفصة قال عمر لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خـير منكن، فجاء القـرآن بنفس الألفاظ.
وعندما سمع من صلعم قول القـرآن {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} علق عمـر قائلا : فتبارك الله أحسن الخالقين، فأضافها صلعم على الفور إلى النص القـرآني.

إذن لا يعدو الأمر برمته مجـرد عملية فبركة قـرآنية*11*. إذا يُفْهَم من ذلك أن عمـر كان في مقدمة الذين فهموا اللعبة فهما جـيدا وراح يلـعـبها مع صلـعم بمهارة تفـوق الآخـرين.

توفي أبو بكر في عام 13هـ/634م، فخلفه عمر كما هو مخطط له، وبناء على وصية رد الجميل أو حسب التعبير المصري: « شيلني وأنا أشيلك »، أو كما يقول الألمان: « يد تغسل الأخـرى ». وتولى الخلافة دون معارضة علنية، فقد بدأت تتشكل تحت السطح جبهتان أساسيتان متصارعتان، إحداهما بقيادة الهاشميين الذي يشعرون بأن أمر الخلافة يفلت تدريجيا من بين أيديهم، والثانية بقيادة الأمويين الذين يهيئون أنفسهم لاغتصابها في وقت ما. وقد تنبه عمر إلى جذور الصراع واستمراريته بينهما فأوضح لعبد الله بن عباس ـ إبن عم صلعم ـ خطـورة اعـتراض الهاشميين على تسلم الأمـويين للسلـطة بقـوله: « إنهم ينظـرون إليكم نظـرة الثور إلى جزَّاره ».

ومن ناحية أخرى رأى عمـر أن مواصلة سياسة الغزو والاستيلاء على الدول الخصبة المجاورة لهم تحقق له هدفين:
الأول: أنها تعمل على تدفق الغنائم والسبايا إلى يثرب ومكة باطـراد.
والثاني: أنها تشغل البدو العـربان عن حـروبهم فيما بينهم والتي جبلوا عليها.

ومن الجدير بالذكـر أن هذه السياسة العدوانية مازالت قائمة بين المتأسلمين تحت فقه "الجهاد"، وهو إما محاربة الآخرين أو محاربة بعضهم البعض. وأن تخليهم عن ذلك يعـرضهم للذل والانحطاط، كما أسلفنا.

وقد ساعد عمـر على مواصلة هذه السياسة ضعف وبداية انهيار الدولتين الفارسية والبيزنطية نتيجة للحروب المستمرة بينهما منذ زمن بعيد. فانحسرت قوتهما وتقلص نفوذهما عن مجالاتهما الحيوية في شرق وشمال وغرب شبه الجزيرة. فجاءتهما الضربة القاضية في وقت واحد من حيث لا يتوقعون، من أكثر مناطق العالم تخلفا، وأكثر الناس انحطاطا. فتوسع عمــر في عمليات السلب والنهب وسبي البنات والنساء إلى أبعد مدى، ووجه الشوكة آلإسلامية إلى الاستيلاء على كافة البلاد الحضارية الخصبة المتاخمة لهم في كل الاتجاهات. ففي العام التالي لولايته إستولى البدو العربان على سوريا والعراق، وفي عام 736 إستولوا على فلسطين وانتصروا انتصارا حاسما على الـفـرس في معـركة القادسية (في العراق) واستولوا على مصـر في عام 641. دون مـقـاومة تذكر، إذ انسحبت قوات المحتل البيزنطي وتركت لهم البلاد بمن وما فيها لقمة سائغة. كانت مصر تمر آنذاك بإحدى الفترات الحالكة في تاريخها، فقد احتلها الـرومان وتعـرضت في عام 284م لمجـزرة راح ضحيتها أكثر من 140 ألفا من الأقباط على يد الأمـبراطور الـروماني دقلديانوس، ومنذ ذلك العام بدأ التقويم القبطي الذي مازال ساريا فيها حتى الآن، ثم احتلها البـيزنطيون في عام 395م، وعمدوا إلى نهب ثرواتها وتحطيم آثارها ومعابدها، وساءت إدارتها وشاعـت الفوضى بين أرجائها، وظل الأمر هكذا حتى دخلها البدو العربان ليعيثوا فيها فسادا، وقتلا وتدميرا مازالت آثاره باقية حتى اليوم.

وقد أمر ابن الخطاب قائد جيشه إلى مصر عمرو بن العاص أردأ وأخبث شخصية في التاريخ العربي الإسلاموي بأن يحرق مكتبة الإسكندرية أعظم المكتبات العالمية في ذلك الوقت، فوزعت كتبها في طـول البلاد وعـرضها لحـرقها في تدفـئـة مـياه الحـمامات*12*.
رأينا فيما سبق كيف أن البدو العربان كانوا يعظمون ويجلون أهل مكة والقرشيين منهم على وجه الخصوص، حتى أن النبي كانت لديه هذه النزعة القبلية الفوقية استنادا إلى قوله: « ولا تكون العرب كفؤا لقريش والموالي لا يكونون كفؤا للعرب*13* ». ويذكر السرخسي في نفس المصدر أن سلمان الفارسي أراد الـزواج من بنت عمر بن الخطاب فـرفض الأخير، لأنه ليس قرشيا عربيا. ولم يشفع له كونه كان أحد كبار الصحابة، وموضع رضى صلعم، إذ قال عنه:«سلمان من آل البيت». ولذلك فإن أي دارس موضوعي لعهد عمـر يدرك على الفور أنه كان أكثر من غـيره عنصـرية للعـربان، إذ بالغ في حبهم واحترامهم، وفي بغض الشعوب الأخرى واحتقارها، فـ« كان لا يرى غـير الـعـرب المسلمين وغـير الجـزيرة العربية، لذلك أخرج اليهود من الحجاز، وأسكنهم في الشام وأخرج النصارى من نجران وأسكنهم في الكوفة، ومنع الـرجال من سبي البلاد المفتوحة من دخول الجـزيرة العربية، حتى تكـون الجـزيرة خالصة للـعـرب*14* ».

لا شك في أن العمل الذي غير وجه شبه الجزيرة العربية الصحراوية بمجئ محمد، كشف عن الرغبة العارمة لدي أتباعه في تدمـير الماضي كله الذي نُـعِت بـ"الجاهلية"، مع الحفاظ على ما فيه من شواهد وطقوس. وأغـرى خلفاءه بالتوسع شـرقا وغـربا، فانطلقوا بسيوفهم ورماحهم يكتسحون الدول المجاورة لهم ويسددون ضربات قاضية للأمبراطوريات المنهكة والمتهالكة على تخوم بلادهم. فقد بدأ عـمـر بن الخطاب في توسيع الاحتلال العربي الإسلامي بأبشع صوره، مما أدى إلى محو دول بكاملها من الوجود، فسقطت شعوبها في جحيم القتل والسلب والنهب والاغتصاب والأسر والذل بعد أن كان الله قد خلقهم أحراراعلى حد قوله هو عندما تمكن أحد الأقباط من المجئ إليه يشكو له ابن محتل مصر وحاكمها عمرو بن العاص الذي صفعـه، والقصة معـروفة لدي المتأسلمين للدلالة التلفيقية على عدل عمر وشدته في الحق، مع أنها لم تقل لنا ماذا كان يحدث لملايين الأقباط الآخرين الذين يتعرضون يوميا لظلم وقهـر ابن العاص وعصابته، ولماذا لم يقدر سوى شخص واحد فقط منهم على الذهاب إلى الخليفة ليخـبرنا بعدله وشدته في الحق؟!.

الحقيقة أن موقف بعض العملاء (السنة تحديدا) من عمـر، يندرج تحت تصوراتهم في تشكيل الصورة النمطية لداعي الفـكرة ورفاقه بصفتهم " قدوة حسنة " تكاد تكون معدومة بين المتأسلمين.

ومع اتساع رقعة البلدات المستولى عليها، ازداد تدفق الغنائم على العربان الجياع. ولأن عمر يعرف بأن الغنائم تكون دائما سببا في الهزائم وأن بريق المادة يغلب باستمرار على إشعاع الإيمان لدي العربان، فقد أسس إدارة سياسية هي الأولى من نوعـها في تاريخهم. فقسم تلك البلدان إلى ولايات عين عليها أمـراء عـربان ممن يثق في ولائهم له. وسن عدة قوانين للإبقاء على العنصر البدوي العرباني متميزا على الشعوب الأخرى، بحيث يكونون أصحاب الكلمة العليا فيها.

ولقد الـتزم عمـر في سياسته بقـدر من العدل الاجتماعي والاقتصادي مع أهله ومع العربان المتأسلمين من حوله، مما طبعها بالتقشف الشديد والمراقبة الدقيقة لموارد بيت المال، إلا أنه لكي يضمن ولاء العسكريين له، ولكي يجنبهم السقوط في هاوية الاستيلاء على الغنائم ومصادرتها لحسابهم، كان يوزع منها أربعة أخماس عليهم، ويخص بيت المال بالخمس الباقي. فتسبب ذلك في نشوء طبقة من الملاك والمزارعين والتجار المنحدرين من قريش والمهاجـرين الذين وضعوا أيديهم على ثروات البلاد المغلوبة. فشيدوا لأنفسهم القصور الفخمة والضياع والمزارع الكبـيرة، فكونوا نواة لطبقة إقطاعية بدوية عربانية في البلاد التي اغتصبوها.

ومن النواحي الشديدة التعصب والجديرة بالاهتمام في سياسة عمر أنه تمكن من توحيد شبه جزيرة العربان، وأبعد عنها كافة العناصر الدينية الأخرى، بحجة أنه « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب »، وهو الشعار الذي مازال معمولا به من قبل أحفاد صلعم حتى الآن. وأمر بمنع أي سبي بلغ الحلم من دخول يثرب قائلا: « لا تجلبوا علينا من العلوج أحدا جـرت عليه المواسي [أي كل من يستعمل الأمواس في حلق لحيته] »، والعـلـوج هو إسم مرادف للبعـير أو المواشي، وفي ذلك احتقار لأبناء الشعوب الأخـرى، تأسيا بنبيهم "الكريم". وهكذا نهى عن إحضار الشباب والرجال الأسرى منهم إلى يثرب خوفا من أن ينتقموا منه، ولذلك كان يتجول في المدينة حاملا الدرة يضرب بها من يشاء وهو مطمئن وسط قومه، وحدث أن الهـرمـزان الذي كان حاكما لمنطقة الأهوار في جنوب العراق قبل أن يهزمه المتأسلمون ويأتون به أسيرا، ثم ينجوا من الموت باعتناقه الإسلام، رآه مضطجعا في المسجد، فقال: « هذا والله الملك الهانئ، حكمت فعدلت فنمت ياعمر »، هذه الجملة قالها فارسي ويتشدق بها المتأسلمون دائما وأبدا للـدلالة عـلى عـدل الـبدوي ابن الخطاب. ولكـن ، وبالرغم من ذلك، فقد انتقم العلـوج منه، وعندما طعنه أبو لؤلؤة الفارسي قال: « ألم أقل لكم لا تجلبوا علينا من العلوج أحدا فغلبتموني*15* ».

ومما لا شك فيه أن الهـرمـزان الفارسي هذا لم يعـرف قصة عمـر مع أبي بكرة بن سميلة وأخـوتة نافع وزياد وشبل الذين شاهدوا المغـيرة بن شعـبة الثقفي أمير البصـرة وهو يزني مع امـرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو زوجة الحجاج بن عتيق، ولما هم الأمير الزاني للصلاة بالمتأسلمين أراد أبو بكره منعـه، وانتهى الأمـر بالاحتكام إلى أمير المؤمنين عمر. فأجمع ثلاثة من شهود العيان على أنهم شاهدوا الواقعة ورأوا قضيبه يدخل إلى فرجها ويخرج منه، كما يدخل الميل (المرود) في المكحلة، عندئذ أراد عمر أن ينقذ أمـيره من حـد الـرجم بناء على آية نسخ حـرفها إله البدو العربان من قـرآنهم، وبقى حكمها، بمعنى أنها لم تدون في القرآن، لكن مازال العمل بها ساريا " طبعا حتى الآن".
إنطلق الأمير الزاني إلى الشاهد الرابع زياد وقال له:
... والله لو كـنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فـيها،
فـدمعت عـينا زياد واحمر وجهه، وقال:
يا أمـير المؤمنين، رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا ورأيته مستبطنها (يعني بطنه على بطنها)،
فسأله عمر: رأيته (القضيب) يدخل كالميل في المكحلة؟،
فقال: لا، رأيته رافعا رجليها و...
وقدم زياد شرحا دقيقا لعملية الجماع التي سمعها ورآها، (مذكور بالتفصيل في الكتب التراثية الإسلاموية شديدة التقديس، ولكننا نأنف عن ذكرها هنا مراعاة لمشاعر القراء).
لقد أحس زياد بأن عمـرا لا يريد أن يخـزي أميرة المغيرة ويعـرضه للرجم، فنفى رؤيته (القضيب) يدخل كما يدخل الميل في المكحلة،
وهنا قال عمر: الله أكبر وأمر المغيرة بضربهم، فضرب أبو بكرة ثمانين جلدة وضرب الباقون*16*.

ولا ندري لماذا لم يستعمل عمـر اللفظ البـذيء الـذي استعمله نبيه مـرارا وتكـرارا؟ هل كان عمر أكثر أدبا من نبيه؟ أم أن نبيه لم يكن قدوة حسنة له في هذا المضمار؟؟؟

وهكذا، ياويل من يكتب عن عمـر!! ... ياويله!، ما يكاد يدخل إليه حتى يجد نفسه يسبح في بحار من نور لا يدري أولها من آخـرها!!! إننا إذن أمام كارثة ضمن الكوارث البدوية العديدة التي حلت بنا، وأطبقت على عقولنا ونفوسنا منذ ما يقرب من 1500 عام، فهذا الخليفة يحظى من المتأسلمين بالمديح والتقـريظ مالم يحظى به غيره، والوحيد من بين الخلفاء " الراشدين وغير الراشدين " الذي يحظى بإصرارهم على أنه عُـرِف بشدته في الحق، ومخافته من الله، وحرصه على العدل، فأي شدة في الحق يتشدقون، وأي مخافة من ربهم يتكلمون، وأي حرص على العدل يزعمون؟؟؟ إنهم يخدعـون أنفسهم ويخـدعـوننا كما رأينا في هذه الواقعة المخـزية، والتي يجب أن يخجل منها، ومن غيرها، كل إنسان لديه أدنى حد من العـزة والكـرامة.

ولأن لكل قاعدة شواذ فقد استأذنه المغيرة بن شعبة وكان واليا على الكوفة، بأن يسمح لأبي لؤلؤة المجوسي وهو من سبي نهاوند بأن يدخل إلى يثرب لما عنده من صنايع، بمعنى أنه حرفي متمرس. ولا ينسى ابن سعد أن يقول عن أبي لـؤلـؤة هذا إنه « كان خبيثا »، ولم يقل لنا إن البدو المتأسلمين أضاعوا بيته وأسرته وأطفاله ووطنه دون أن يسيء إليهم. ولما جىء به إلى يثرب، كان يسير في شوارعها ليبحث عن أولاده بين الأطفال السبايا الذين يملأونها، وقد جلبوا من إيران وبلاد الرافدين والشام ومصر، وكان ينظر في وجوههم ويمسح على رؤوسهم باكيا ويقـول: « إن العـرب أكلـت كـبدي ». وأخيرا انتقم من عمر بقتله. بينما تذهب روايات تراثية أخـرى إلى أن السبب الذي دفع أبا لؤلؤة إلى قتل عمـر هو أنه اشتكى سيدة المغـيرة لكثرة ما يفرضه عليه من خراج مقابل عمله الحر، فقال له عمر: أحسن إلى مولاك، فغضب وأضمر قتله*17*. وروايات ثالثة تقول بأن الهـرمزان هو الذي حـرضه على قتل عمر، وذلك انتقاما للهزيمة التي ألحقها به جيش المتأسلمين.

وهكذا قُتِل عمر بجريرة أعماله، لأن كل امرء يساهم بقدر ما في مصيره. ولما قُتِل أقـدم ابنه عبدالله فقتل طفـلة بريئة لأبي لـؤلؤة، كما قتل الهرمزان انتقاما لمقتل والده، الأمر الذي وصفه خالد محمد خالد بأنه كان ثأرا لأبيه وللإسلام (!!!). وبرر عـدم قصاص عثمان بن عفان من ابن عمر طبقا للشريعة الإسلاموية (الهشة) بأنه لم يشأ أن يجمع على آلـ الخطاب حزنين وكارثتين ـ الأولى مقتل عمر غدرا، والثانية قتل ولده قصاصا، واستبدل الدية بالقصاص*18*. وبذلك ينضم خالد إلى جيش العملاء الملفقين والمفبركين، ويستهين مثلهم بعقول البشر جاعلا الغاية تبرر الوسيلة، ومن ثم ما يفعلة حكام المنطقة والعصابات الإسلاموية على نحو المشين، هو عين العقل وأساس العدل.

أما عن اختيار عمر لعثمان بن عفان كخليفة من بعده، فقد تم بناء على " مسرحية سياسية " أعدت بعناية، قال عنها سيد أمير علي بأنها كانت « هـفـوة » اقترفها عمـر، و« مهدت السبيل إلى مؤامرات الأمويين الذين شرعوا في تكوين حـزب قوي في المدينة. لقد طاردوا محمدا واشتطوا في إذائه، ولم يعتنقوا الإسلام بدافع المصلحة إلا بعد فتح مكة ». ويرى سيد أمير على أنه « كان باستطاعة عمر أن يسمي بسهولة عليا أو ابنه عبدالله - المعــروف بابن عمر - خليفة للمسلمين من بعده*19* »، ونحن نرى أنه لو كان باستطاعته أن يفعل ذلك لفعله على الفور كما يفعله غيرة دائما وأبدا، خاصة وأن بعض المنافقين ممن حوله قد طلبوا منه أن يستخلف ابنه من بعده وهو على فراش الموت، فقال « ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي »، مع أنه رغب فيها لنفسه وسعى أليها سعيا حثيثا، بناء على الصفقة المذكورة آنفا مع ابن قحافة !!. كما أنه لم يكن بوسعه أن يعين عليا في هذا المنصب طالما يرى الأمويين وهم ينظـرون إلى الهاشميين نظرة الثور إلى جـزاره، فالواقع من حوله يفرض عليه ألا يُمَكِّن الجـزار من الثور، وألا يختار أحد بنفسه كي يخـلـفـه.

باختصار: عيَّن ستة ممن يُنعَـتون بـ" الأشراف الذين بشـرهم صلعم بجـنتـة " لاختيار خليفة من بينهم وذلك فيما يعرف في كتب التراث الإسلاموية بخرافة "الشورى"، هم: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والـزبير بن العـوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص. ولم يعـرف عـن أي منهم أنه كان يطمح إلى الخلافة في ذلك الوقت سوى على ممثلا للهاشميين وعثمان ممثلا للأمويين، بينما أقصى ما يطمح إليه الآخـرون هو تعيينهم من قبل الخليفة الذي سيقومون باختياره أمراء على الأقاليم الخصبة المحتلة، ليشاركوا بفاعلية في منظومة السلب والنهب الجاري رحاها.

دعا عمر " الأشراف " الستة إلى بيته لإملاء تعليماته عليهم، وكان طلحة مسافرا فلم يحضر. طلب منهم عمـر أن يتشاوروا فيما بينهم ثلاثة أيام ويختاروا خلالها واحدا منهم، وأن يضـربوا عنق من يعارض اختيارهم، فإذا انقسموا يكون الحكم لأبنه عبدالله فإذا حكم للثلاثة الذين من بينهم من اختاروه، يضربون أعناق الثلاثة الآخرين.
منتهى القدوة في النحـطاط الأخـلاقي والسلوكي.

ولما طلبوا منه أن يدلي برأيه ليقتدون به، قال: « ما يمنعني أن أستخلفك يا سعـد إلا شدتك وغلظتك، مع أنك رجـل حـرب، وما يمنعني منك ياعبد الرحمن إلا أنك فـرعون هذه الأمة، وما يمنعني منك يازيد إلا أنك مؤمن في الرضا وكافر في الغضب، وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره، ووُلِّيها وضع خاتمه في إصبع امرأته، وما يمنعني منك يا عثمان إلا عصبيتك وحبك لقومك وأهلك، وما يمنعني منك ياعلي إلا حـرصك عليها» وحـذر على وجه الخصوص كل من علي وعثمان إن وُلِّي أي منهما أن يتق الله ولا يحمل أحـد من بني جلدته على رقاب الناس ».

وتذكر كتب التاريخ التراثية المقدسة أن عمـرا لم يجـد أحـدا على قـيد الحياة ممن يثق في كفاءتهم كي يعهد إليه بالخلافة من بعده. كما يلاحظ مما سبق أنه لم يكن يثق إيضا في أي من هؤلاء الستة « لأشراف المبشرين بجنة صلعم » كي يعهد إليه مباشرة بها. فإذا كان أولئك الأشراف المبشرون بالجنة بهذا السوء، فلماذا طلب ابن الخطاب أن يختاروا أحدا منهم للخلافة، هل أراد أن يضربهم ببعضهم البعض؟؟؟

ولما دفن عمـر اجتمع " الأشراف " الستة في بيت المسور بن مخرمة وتنافسوا في الأمر وكثر بينهم الكلام، ولم يتفقوا على أحد، ولم يضربوا عنق أحد منهم. وبعد ثلاثة أيام أصبح اختيارهم متوقفا على قرار شخص واحد هو عبد الرحمن بن عوف، الذي اتخذه لصالح عثمان. وعندما سُئِل عبد الرحمن : كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟ قال: ما ذنبي؟ لقد بدأت بعلي فقلت له: إذا بايعتك أتقيم لنا كتاب الله وسنة رسوله وسيرة صاحبيك وشرط عمر بأن لا تجعل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس؟، فقال: بقدر استطاعتي من جهد وطاقة. ثم عرضت ذلك على عثمان بشرط ألا يجعل أحدا من بني أمية على رقاب الناس، فقال: نعم. ولكن الطبري وأمثاله يذكرون أن خدعة خبيثة قام بها أردأ وأخبث خلق الله المدعو عمرو بن العاص أدت إلى ذلك، إذا قابل كلا منهما على حدة وأقنعه بتلك الإجابة، فأخذا بنصيحته الخبيثة، ولم يشعر علي بالخديعة إلا بعد أن وقع في حبائلها.

ويفهم مما سبق ذكره أن الانحراف السياسي بعد موت صلعم بدأ يأخذ اتجاهات عديدة قوامها النصب والاحتيال والخداع معتمدا على تلك الفكرة، لهشاشتها، ولكننا مازلنا نؤكد بأن أولئك الناس لهم في نبيهم أسوة حسنة، وقدوة واجبة الاقتداء.

عـثمان بن عـفان

قُتِل عمر في 644/11/23 فخلفه عثمان بن عفان، وبذلك تحولت الفكرة والسياسة التي تعتمد عليها بعيدا عن الأصل الهاشمي ـ أهل صلعم ـ إلى الفرع الأموي (أنظـر بيان القبيلة القـرشية المزعومة ص 71)، فعثمان من الأمويـين الأثرياء في مـكـة. والذين كانوا يرون أنفسـهم دائمـا أرفـع مكانة من الهاشـميين وأجـدر منهم بالحكم. ولذلك كانت ولاية ابن قحافة وابن الخطاب بالنسبة لهم مجـرد قنطـرة أبعدت الهاشميين عن السلطة وأفضت بهم إليها.

وتسبب اختيار عثمان خليفة للمتأسلمين في زيادة عدد الغاضبين والساخطين، فكثرت الانقسامات واتسعت هوة الخلافات بين البدو العربان، مما أدى إلى هد كيان الإسلام، فخفت جذوته وذهب بريقة في بلادهم بعد ثلاثة وعشرين عاما فقط من ظهوره. وبدأت القيم الدنيوية تطغى على حساب القيم الدينية في تصرفات عثمان وخلفائه والمتأسلمين العربان بوجه عام منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. يقول سيد أمير علي: « ومع أن عثمان كان رجلا فاضلا شريفا، فإنه كان مسنا، ضعيف الشخصية، غير كفء لمهام الحكم، لذا وقع فورا، كما توقعت عائلته تحت نفوذها، وانقاد بكليته إلى أمـير سره مروان، أكثر الأمويين اعوجاجا*20* ». وهذا القول يضعنا أما تناقض واسع الانتشار في قراءة تاريخ المنطقة برمتها على مر العصور، الأمر الذي يجلب علينا قدرا كبيرا من الارتباك الذهني والسلوكي، فلا يدري المرء ما إذا كان فضل الحاكم وشرفه وراء سقوطه " المشين " تحت نفوذ عائلته وانقياده " الأعمى " لشخص شديد الاعوجاج، أم ضعف شخصيته وكبر سنه وعدم كفاءته لمهام الحكم هي التي أوقعته فيما وقع فيه؟ فهتان الصفتان لا تتفقان معا في شخص يتقلد أعلى منصب في مجتمع ما. ولكن مثل هذه الأقوال وغيرها كثيرا ما نجدها في وصف الحكام العجزة والفاشلين في بلادنا، كمحاولة لتبرئتهم من الفساد والانحطاط اللذين يصاحبان عهدهم. فقد قيلت على الملك فاروق وحاشيته وعلى عبدالناصر ورفاقة العسكر، وعلى صـدام حسين في العـراق ومازالت تقال على الآخـرين في هذه البقعة الموبوءة بالتأسلم والعـروبة. ولكن الحقيقة هي أن فضل الحاكم وشرفه، إذا توفرا في شخصه بالفعل، يجب أن يحميانه من الوقـوع تحت نفـوذ أي شخص مهما كان، بمعنى ألا يكون ألعـوبة في أيدي الآخرين. ومن ناحية أخرى، فإن مغبة اختيار أولئك الحكام العجزة والفاشلين لا تقع فقط على عاتق من اختاروهم أو ساندوهم بريائهم ونفاقهم واستغلالهم وحدهم، بل عليهم هم في المقام الأول.

تحتم على عثمان أن يواجه بعض المشاكل المستجدة، وأن يعمل على حلها أثناء خلافته. ومن أهم تلك المشاكل على الإطلاق تنظيم عملية جمع الجبايات والغنائم من البلاد التي تم الاستيلاء عليها، وضمان وصولها إلى يـثرب، ومن ثم توزيعها على الأقاليم والحكومة المركزية فيها، وعلى أصحاب النبي وأهل بيته ممن لا يشارك في الحكم، إذ كانت توزع عليهم قبل ولايته تبعا لأسبقيتهم في الدخول إلى الإسلام. وقد حدى به هذا إلى عـزل معظم الولاة والحكام الذين كان عمر قد استعملهم وعين في أماكنهم عددا كبيرا من أقربائه والموالين أو المنافقين له ممن لا قيمة لهم، ولا يتمتعون بأدنى قدر من الكفاءة، فعزل على سبيل المثال لا الحصر أبا موسى الأشعري عن البصرة وعين مكانه ابن عمته [في بعض كتب التاريخ ابن خالته] عبد الله بن عامـر، وعـزل سعد بن أبي وقاص عـن الكوفة وعين عليها أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن معيط الذي شاع عنه أنه صلى بالمتأسلمين صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران!، ثم التفت إلى المصلين وقال لهم: هل أزيدكم؟!. كما عـزل أردأ البدو وأخبثهم عمرو بن العاص عن حكم مصر وولى مكانه عبدالله بن سرج أخاه في الـرضاعة، فعاد عمرو إلى يثرب ليقود عملية سب وتشهير ضد عثمان، كما ولى ابن عمه معاوية بن أبي سفيان على الشام، بينما ولى مروان بن الحكم رئاسة الديوان وهو ابن عم آخـر له، « أكثر الأمويين اعوجاجا » على حد التعبير المهذب جدا لسيد أمير علي. كذلك أرسل عثمان من ضـرب وأهان الصحابي عمار بن ياسر أثناء اعتصامه مع سعد بن أبي وقاص في المسجد احتجاجا على سياسته وسياسة حكامه، وبعد ذلك أقسم عثمان بالله أنه ما رضي بضربه، وقال: « هذه يدي لعمار فليقتص مني ما شاء ». مما يدل على مدى ضعفة وانحطاطه.

ومع بداية عصر عثمان خرج الكثير من الصحابة إلى البلاد المغتصبة بحجة نقل تعاليم الدين الجديد إليها، ومنهم عبدالله بن مسعود الذي خرج إلى العـراق. فالتف أهلها حوله ووقفوا إلى جانبه في الخلاف الذي نشب بينه وبين عثمان حول مصاحف القرآن. فعندما طلب عثمان من ابن مسعود تسليمه المصحف الذي كتبه كي يحـرقه مع المصاحف الأخرى التي تختلف عن مصحفه، رفض ابن مسعود. فأمر عثمان واليه في العراق بقطع راتبه من بيت المال وارساله إليه، ولما دخل عليه ابن مسعود احتدمت بينهما مشادة حادة حول القرآن، أمر عثمان على أثرها بجر ابن مسعود من رجليه في يثرب حتى كُسِـر له ضلعان. ولكن خالد محمد خالد يقول في إحدى كتبه التلفيقية*21*: « إن عثمان عـزله لتقدمه في السن ولوقوع خلاف هادئ بينه وبين الخليفة »، ويسوق خالد في هذا السياق تبـريـرات واهية وحجج وعظية تلفيقية لا يمكن لأي عقل سَوِيٍّ أن يقتنع بها.

وجاء في الكتب الإسلاموية التراثية أن عثمان سأل يوما الحاضرين: « أترون بأسا أن نأخذ مالا من بيت مال المسلمين فننفقه فيما يقوينا ونعطيكم منه؟ »، فسخـر منه الصحابي أبو ذر الغفاري، فقال له عثمان: « ما أكثر أذاك لي، غيِّب وجهك عني، فقد آذيتنا »، وعلى أثر ذلك رحل أبو ذر إلى الشام، إلا أن معاوية سرعان ما أرسل إلى عثمان يبلغه بأن أبا ذر تجتمع إليه الجموع، وأنه لا يأمن أن يفسدهم عليه، فأمره عثمان أن يحمله على بعير عـليه قـنب يابس [أحد النباتات الحولية التي يستخرج منها قشرتها التيل]، ويرسله إلى يثرب، مما تسبب في تسلخ بواطن فخـذيه.

ظل المتأسلمون طيلة السنوات الست الأولى من حكم عثمان متمسكين بالهدوء معتصمين بالسكينة. إلا أن الأمور بدت لكثير منهم وقد اتخذت مسارا خاطئا، فقد ظهرت امبراطورية تحكمها طبقة ارستقراطية جديدة من العـربان تتصف بالجشع وعدم الضمـيـر والتجرد من المبادئ والأخلاق. وبدلا من العدل والمساواة والتسامح، برز الظلم والامتيازات والسيطرة والطغيان.

كان عثمان على العكس من سابقيه متساهلا، وكثيرا ما أفـرغ البيت من المال بتوزيعه على أتباعه وأشياعه ومحاسيبه وكافة الجلاوزة والمنافقين من حوله. فذهب الجانب الأكبر من الغنائم والثروات التي تدفقت من الدول المغتصبة إلى جيوب الأمويين ليزدادوا ثراء على ثرائهم، ولتمكنهم من القتال فيما بعد للاستيلاء على السلطة بالكامل.

شرعت الأموال المتدفقة باطراد على يثرب ومكة تتيح للبدو العربان التمتع بحياة الترف والرفاهية، كما هو الحال مع أموال النفط في الوقت الراهن. يقول سيد أمير علي عن تلك الفترة: « إن أهل مكة استأنفوا حياة اللهو والمجون والقمار والخمر وأسباب الترف والطيش وأصبح التشبه بالنساء هو الـزي المألوف، كذلك انتقل لهو مكة وخلاعتها إلى دمشق بشكل أسوأ في عهد الأمويين*22* ».

أفرط ولاة عثمان في فرض الجزية والتعامل المشين مع الشعوب المغلوبة. « فشاع النقد والسخط عليهم وكثر القيل والقال في مخالفتهم للدين وتوسعهم في اقتناء الدرر والحطام، وكان على قمة الناقدين والساخطين عائشة بنت أبي بكر ـ زوجة الرسول ـ وعلى بن أبي طالب ـ إبن عم الرسول ـ وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهم*23* ».
فعائشة غاضبة لنقص العطاء عما كان مقدَّرا لها في عهد عمر بن الخطاب بالرغم من تدفق الأموال والغنائم بشكل متزايد من البلاد الخصبة التي تم الاستيلاء عليها. وتضاعف غاضبها لمقتل أخيها محمد بن أبي بكـر على أيدي الأمويين. فقد اختاره عثمان ليحل محـل محمد بن أبي سرج في حكم مصر عندما كثرت شكوى المصريين من أفعاله. ولكن عـثرت الـوفـود القافلة إلى أمصارها ـ كما يقول العقاد ـ في طريقها بغلام يحمل كتابا في أنبوبة من الـرصاص موجه إلى ابن سرج، فيه أنه « إذا أتاك محمد بن أبي بكـر ومن معه فاحتل في قتلهم وابطل كتابه وقر على عملك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله »، فقتله هو وجلاوزته ظمآنا ووضعوه في جوف حمار ميت وشووه، بعد أن جـروه من رجليه في أسواق مصر واشهدوا على مثلته السفلة والصبيان، ثم أرسلوا قميصه الذي قتل فيه وهو ملطخا بدمه إلى المدينة، فلبسته نائلة زوجة عثمان ورقصت به، وشوت أخت معاوية خروفا وأهدته إلى عائشة ـ في ذلك العـيد ـ وهي توصي حامله أن يقول لها: « هكذا كان شيُّ أخيك ». هذه إذن أخلاق العربان التي يجب على كل متأسلم أن يقتدي بها.

أما على بن أبي طالب كان ساخطا وغاضبا أيضا لأنه يـرى نفسه بوجه خاص أحق بالخلافة من عثمان. وكان عمـرو بن العاص بطبيعة الحال من الساخطين أيضا. ولم يختلف الأمـر كـثـير بالنسبة لسعد بن أبي وقاص الذي عزله عثمان عن حكم الكوفة في العراق ليعيِّن مكانه الوليد بن عقبة ـ أخيه الثاني لأمه ـ وكان الوليد متهما ـ كما أسلفنا ـ بشـرب الخمـر والفساد وشاع عنه في المدينة أنه أمَّ الناس يوما في صلاة الفجـر وهو سكران وزداها أربع ركعات، ثم التفت بعد آدائها إلى المصلين وقال لهم، مستهينا بهم وبدينهم: هل أزيدكم منها.

وقف الهاشميون بزعامة علي بن أبي طالب ضد سياسة عثمان واتهموه بالفساد والخيانة والفسق بما يحل معه إهدار دمه، وظهـرت نوايا أم المؤمنين عائشة ونزواتها السياسية فانضمت إليهم، وراحت تحرض الناس على قتله. كذلك فإن المدلس عبدالرحمن بن عوف الذي تسبب في إقصاء علي بن أبي طالب عن الخلافة وإعطائها له انقلب عليه عندما لم يجد منه فائدة شخصية، فراح يشنع عليه ويظهـر معاييبه علنا أمام العصابة المتأسلمة.

وفي اللحظات الحرجة والعصيبة تخلى الأمويون في يـثرب عن الخليفة السيء الحظ وهـربوا إلى الشام، فكتب عثمان إلى ابن عامـر في البصرة وإلى معاوية في دمشق يستنجدهم في إرسال جيش يطرد أعداءه من يثرب، فأرسل معاوية جيشا بقيادة حبيب بن مسلمة النهري، ولكنه أمـره بالتباطؤ في السـيـر إلى المدينة حتى تحسم الأمور هناك. وبالفعل عـندما جاءه خبر مقتل عثمان قفل حبيب بجيشه راجعا إلى دمشق.

بعد شهـرين من حصار عثمان في بيته وتجويعه وتعطيشه، أحـرق الهائجون باب البيت ودخل عليه نفـر منهم ومعهم محمد بن أبي بكـر، الذي أمسك بلحيته وقال له: « على أي دين أنت يانعثل؟ » فقال عثمان: « على دين الإسلام، ولست بنعثل، ولكني أمير المؤمنين » فقال محمد معاتبا: « غـيرت كتاب الله، وإنا لا نقبل أن نقول يوم القيامة [ربنا أطعنا سادتنا وكـبراءنا فأضلون السبيل] الأحـزاب 67.»، وتذكر بعض كتب التراث أن كبار الصحابة أرسلوا أبناءهم للاستبسال في الـزود عن عثمان. وهنا يتساءل المرء: لماذا أرسلوا أبناءهم ولم يذهب أي منهم بنفسه؟ فـربما كان مجـرد ظهوره أمام بيت عثمان يجنبه القتل ويغـير مجـرى التاريخ، وما هي نتيجة استبسال أبنائهم المـزعوم؟؟!!.

رفض المتأسلمون وفي مقدمتهم أصحاب محمد الصلاة على جثة عثمان أو دفنها في مقابر المتأسلمين، وظلت هكذا لمدة يومين حتي انبعث منها العفن، فجرى دفنها ليلا في مقابر اليهود.
ومع ذلك ظل ممن كرم الله وجوههم ورضي عنهم وأرضاهم.

عـلي بن إبي طالـب

قتل عثمان في 656/6/17 فنودي بعلي خليفة في يثرب، بيد أن كل العوامل من حوله آنذاك كانت تعمل على زعـزعة مركزه من البداية، فالأمويون الأقوياء في مكة يتهمونه بالتواطؤ في قتل عثمان ـ رجلهم الأول ـ ومن ثم يطالبون بالثأر لمقتله. ورجلهم الثاني ـ معاوية بن أبي سفيان ـ كان يحكم سوريا في ذلك الوقت، ويملك من السلاح والعتاد والثـروة وأيضا الخـبرة الحـربية ما يجعله لا ينحني أمام عليٍّ وأتباعه.

أما عائشة بنت أبي بكر فلديها من الأسباب ما يجعلها تتلقى خلافة علي من مبدأ السخط والمقاومة، فهي لم تنسى فيما لم تنساه له مواقفه منها خاصة عندما دارت حولها الشائعات أثناء غزوة بني المصطلق بأنها على علاقة جنسية بصفوان بن المعطل، فيما عُرِف بقصة أو حديث الإفك التي تعرفنا عليها سابقا. يقول العقاد: « ومن الحق أن نقول إن الشعور الذي تكنه السيدة عائشة لعلي من جراء هذه النصيحة شعور طبيعي لا غـرابة فيه »، بيد أنه يقول في موضع آخر: « إنها أذنت لبعض الطامحين إلى الخلافة أن يتوسلوا بجاهها ويشركوها معهم في خصوماتهم، وكان أكرم لهم ولها لو أنهم جنبوها هذه الخصومة*24* ». والعقاد هنا يجعـل من عائشة سيدة قاصرة لا تقدر على أن تجنب نفسها الاشتراك في الخصومة السياسية. وكان على المشاركين معها أن يفعلوا ذلك، ولكنها في حقيقة الأمـر لم تكن لتستطيع ذلك طالما لديها ميل شديد إلى التسلط وجمع المال، وأن أحد المشاركين معها (طلحة) أعلن مرارا وتكـرارا أمام الملأ أنه سوف ينكحها بعد موت زوجها صلعم. ثم لماذا تشذ عائشة عن رهط السيدات الأوائل في دولهم المتخلفة والتي يعتبرنها أملاكا خاصة لأزواجهن ولهن وأولادهن من بعدهم.
ومع أن عائشة كانت تقف في صف علي وحرضت على قتل عثمان، وأن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وهما من كبار الصحابة المبشرين بجنة صلعم كانا قد بايعا عليا بالخلافة إثر مقتل عثمان، ولكنها ما أن علمـت بمبايعة عـلي حتى أصابها الفـزع وقالت: « قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن دمه »، وزعم طلحة والزبير أنهـما بايعا عليا كـرها تحت تهديد الغوغاء الذين قتلوا عثمان، وأنه لا بيعة لمكـره!!. واجتمعت عائشة معهما وخرجوا على رأس جيش جـرار يضم عددا كبيرا من الصحابة لمحاربة علي بن أبي طالب.

وتفهم من جميع المرويات التراثية المقدسة أن عائشة كانت تكوِّن مع ضرتها حفصة بنت عمر بن الخطاب وبعض الضـرائر الأخريات حزبا دائم العداء لفاطمة التي من المفترض أنها بنت محمد وزوجة علي ابن عمه، بالإضافة إلى أنها كانت بلا شك تضمر الكراهية لعلي نظرا لمعرفته بتصرفاتها أو نزواتها الحمقاء أثناء حياتها الزوجية والتي أفصح عنها صـراحة لمحمد أثناء استشارته في حديث الإفـك، وقد حانت الآن فرصة الانتقام منه.

وقفت الطبقة الارستقراطية من الأمويين في مكة خلف معاوية مطالبين بالتحقيق في مقتل عثمان، وانضمت إليهم عائشة ومن معها واتفقوا جميعا على كلمة واحدة هي المطالبة بدم عثمان. وجـد عـلي نفسه وحيدا في المدينة، فراح يلتمس العون في الجيش، فكانت الحامية المرابطة في الكوفة هي الجهة الوحيدة التي أعلنت عن مساندتها له. سارعت عائشة هي وانصارها بالخروج صوب الكوفة حيث وقعت بين الطرفين معركة عند البصـرة عرفت بموقعة الجمل، إنتهت بهزيمة جيش عائشة وقتل طلحة والزبير. ولا تنسى كتب الملفقين التراثية المقدسة أن تقول: إن عليا أعادها على جملها معــززة مكـرمة إلى يثرب!!. دون التطـرق إلى أسباب النزاع وعـواقبه المخـزية.

فكانت بذلك أول حرب أهلية تنشب بين المتأسلمين العربان ويذهب ضحيتها إثنى عشر ألفا منهم. ويعلق العقاد على ذلك بقوله: « إن مأساة الجمل لم تكن عند السيدة عائشة إلا دفعة من دفعات الحدة التي طبعت عليه، قدحتها المفاجأة وأوقدتها كـثـرة المغـريات بعداوة علي في بيئة لم يرتفع فيها صوت لغـير أعدائه، ومهدت لها حوادث الماضي ... إذ أن عليًّا هو صاحب الرأي الذي لا ينسى في حديث الإفك، وهي نصيحته للنبي بتطليقها ». ماذا كانت تريد عائشة من تورطها في الصراع السياسي مع على بن أبي طالب؟ هذا مالم يوضحه لنا السادة العملاء الأفاضل دائما وأبدا؟ هل كانت تريد به وجه الله وتبتغي اليوم الآخر، أم كانت تريد مصلحتها ومصلحة أعوانها؟

خلت حلبة الصراع على السلطة للأمويين بعد هزيمة عائشة وقتل أعوانها وانسحابهم من الساحة السياسية، فتحرك معاوية بجيش من سوريا صوب العراق واندلعت بينه وبين أنصار علي هناك ثاني حـرب أهـلـية بين العـربان المتأسلمين، إنضم خلالها الإيرانيون إلى جانب مناصـرة علي ومن معه بإيعاذ شديد من سلمان الفارسي ـ أحد الفرس الذين اعتنقوا الإسلام ـ وكان من المنافقين المقـربين جدا إلى النبي، ويقال أنه أثار مشكلة الإمامة الشرعية لعلي أثناء انتخاب أبي بكر، ولعل هذا جرى في دائرة صغيرة جدا*25*.

ولم يهدأ أوار تلك الحـرب حتى يومنا هذا، فهي لم تكن حربا بدافع الصـراع على السلطة والثـروة والنفوذ فحسب، بل أيضا لتداخل عوامل ايديولوجية ـ عقائدية لأول مرة على الساحة الإسلاموية، نتج عنها انقسام المتأسلمين إلى شيعة موالين لعـلي، وسُنَّة موالين لمعاوية، وظلت تلك العوامل تتفاعل أقطابها وتتطاحن على مـر العصور، وأدت إلى نشوء انقسامات أخرى جانبية وفـرعـية لا حصـر لها.

تلاقى الطـرفان معـا في معـركة صفين في عام 657، وبهـذا التلاقي أصبح تقـرير الخلافة الاسلامية يتم بعيدا عن مركز الاسلام في مكة ويثرب، ففقدت المدينتان وزنهما السياسي وإن بقيتا بطبيعة الحال محتفظتان بوزنهما الديني حتى اليوم. إنتصر السوريون أنصار معاوية على العراقيين والإيرانيين أنصار علي في تلك المعـركة، بِأنْ دنسوا القرآن برفع صفحاته على أسنَّة رماحهم، بإيعاذ من عمرو بن العاص أخبث وأردأ شخصية بدوية في هذا التاريخ، مما حدى بالآخـرين إلى التصوُّر بأنهم لا يريدون محاربتهم، فتقاعـثوا عن القتال، فأجهز الأمويون عليهم وألحقوا بهم هزيمة نكراء. وهكذا لم يكن الأمر ـ ومازال ـ متعلقا بهذه العقيدة في ذاتها بقدر تعلقه بالسلطة والنفوذ لما فيهما من منافع مادية ومعنوية لا قبل للبدو العـربان بها.

وعقب هـزيمة علي تشكلت عصابة إرهابية عـرفت بـ" الخوارج " قـررت التخلص من علي ومعاوية وعمرو بن العاص بقتلهم، لعدم تطبيقهم الشريعة الإسلاموية، أو أنهم لا يلتزمون بشرع الله أو بما أنزل الله، وهي نفس الأسباب التي تتعلل بها كافة الجماعات الإسلاموية الإجرامية على مـر العصور، وخصصت لكل منهم شخصا يتولى تصفيته جسديا. ولكن لم يتمكن من تنفيذ مهمته سوى عبد الرحمن بن ملجم، فقتل علي بن أبي طالب أمام المسجد في الكوفة في يناير عام 40 هـ ـ 661م.

ولأن العلماء الملفقـين لم يجدوا تبريرا معقولا لتلك الصـراعات الـدموية التي نشأت في وقت مبكـر جـدا بين المتأسلمين، وجميعهم من الصحابة " الأطهار المبشرين بجنة صلعم "، فقد لجأوا إلى نظـرية المؤامر التي تغلغلت في عقولنا حتى اليوم، ليبرروا بها كوارث العـربان وشـرورهم، وذلك باختلاق شخصية وهمية أسموها عبد الله بن سبأ وقالوا عنه أنه يهودي من اليمن وقد أشعل بخبثه ودهائه كل الفتن والكوارث إبتداءً بمقتل عثمان ومرورا بمعركة الجمل وانتهاءً بمقتل علي. ونسيوا أنهم بذلك يسيئون إلى دينهم ونبيهم وصحابته أجمعين، إذ كيف يتثى لشخص واحد مهما كان خبثه ودهاؤه أن أن يخترق هذا الدين، ويتخطى نبيه ويؤلب ويخطط وينفـذ كل هذه الصـراعات الدموية الإسلاموية؟؟؟ وعلى هذا يعلق شامل عبد العـزيز بقوله: « إذا كان ذلك حقا فإننا نعتبر عبد الله بن سبأ هو أفضل رجال تلك الفترة*26* ».

هؤلاء إذاً هم صحابة صلعم الذين بشرهم بجنته "رضوان الله عليهم". مجـرد بشـر ضحوا بكل ما في جعبتهم ـ بما فيها حياتهم ـ من أجل مصالحهم الشخصية لا أكثر ولا أقل. إنهم يقتدون بسنة نبيهم التي تدعم السياسة وحدها؛ وتعلو بالمصالح الشخصية على أنقاض المبادئ الإنسانية.

استولى البدوي معاوية ابن أبي سفيان على الخـلافة ونقل مقـرها إلى دمشق ليؤسس بذلك الدولة الأموية. وبذلك انتقل مركز السلطة إلى أقصى الشمال، فدخلت شبه جـزيرة العـربان مـرة أخـرى في عـالم الظلمات، ولم يعد أحـد يسمع عن سكانها سوى ما يمارسونه من عمليات السلب والنهب والقتل ضد بعضهم البعض وضد الحجاج الوافـدين إليهم لآداء الفريضة في بكة ويثرب كل عام. وهكذا حاول الإسلام أعطاء العـربان قيمة إنسانية ولكن لم تدم جذوتها [شعلتها] طويلا في بلادهم.

الصـعالـيك خـارج كـمائنهم الصـحـراوية

❉-;- الأمـويون

تدل الأبحاث الأثرية التي عـثر عليها في صحراء النقب جنوب منطقة الهلال الخصيب أن معاوية لم يكن ابن سفيان كما تدعي الخرافات الإسلاموية، وأن الإسم سرياني ويعني «البكاء أو الذي يعوي في البكاء» ، وأنه لم يكن متأسلما على الإطلاق!!. فالنصوص الدينية التي عثر عليها وكذلك المسكوكات المعدنية التي تعود إلى فترة حكم معاوية تظهر آثار عـقيدة توحيدية، ولكنها« ليست الإسلام قطعا، بل (عقيدة) تطور منها الإسلام فيما بعد ». ووجد الباحث يهودا نوفو أنه « ضمن كافة المؤسسات العربية الدينية خلال العهد السفياني (661 ـ 684م) هناك غياب تام لأي إشارة أو دليل على محمد*27* ». ولم يتم العثور على إسمه إلا ضمن النقوش الأثرية التي يرجع تاريخها إلى ما بعد عام 690م *28*.

من الواضح أن هذه الفترة المبكرة من تاريخ التأسلم شديدة الغموض وفي حاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب، إذ من المرجح حدوث فراغ سياسي في المنطقة بعد أن وصلت الدولتان الفارسية والبيزنطية إلى حد الإنهاك نتيجة للحرب الطويلة الأمد بينهما. مما أجج صراعا سياسيا بين سوريا في الشمال ومنطقة الحجاز في الجنوب لإخضاع إحداها للأخرى أو أنه حدث تمرد دام لعدة سنوات في الحجاز تحت شعار عقيدة دينية، لم تكن قد تبلورت معالمها لتصبح إسلاموية فيما بعـد. وأن عثمان بن عفان لم يكن سوى مجرد حاكم محلي يتبع لحكام دمشق، وعندما قتله المتمردون نشبت الحرب بينهم وبين مـعاوية وخـلفائه . وكانت الغلبة للأمويين الذين تأسلموا بعد ذلك.

وقد يكون من غير المصادفة ملاحظة أن الأسماء الأموية مثل : معاوية ويزيد ومروان ووليد وغيرها من الأسماء نادرة الوجود جدًا في مملكة آلـ سعود إذ لم تكن منعدمة تماما، وتكثر فقط في منطقة الشام وفي سوريا على وجه الخصوص .

على أي حال، وحتى تنكشف حقائق تلك الأحداث، نواصل القراءة في كتب التاريخ العربي الإسلاموي المفبرك، فنجد فيها أن " الرشد " المزيف قد إنقـطع، وأن الحكام " الراشدين " المزعومين قد اختفوا. فباغتصاب البدوي معاوية " بن أبي سفيان " الحكم ونقل مقـره إلى أعـوانه في دمشق، انتقـل الانحطاط الخلقي والسلوكي مع البدو الغـزاه إلى البلاد الحضارية المجاورة ليتولى تقديسه وحمايته والدفاع المميت عنه مجموعة من العملاء والمرتزقة والمنافقين والدجالين وقطاع الطرق. والـتـقـت مصالح الحكام مع مصالحم، فأعفاهم معاوية من دفع الضرائب كي يكسبهم إلى جانبه، وتركهم ينتشرون كالأورام السرطانية في كافة البقاع. فعمدوا بكل مالديهم من نفوذ إلى تحويل الإنسان المتأسلم إلى كائن جبان شبق ومثقل بالـرذائل، ليس له من فضيلة ظاهرة سوى الـرياء والنفاق، وباطنة سوى الغـدر والقتل.

ولأن الناس على دين ملوكهم فقد تـفرغ الجميع لتصفية خصوم معاوية، فـراحوا يسبون علي بن أبي طالب على المنابر، ويكيلون الشتائم لبني هاشم (أسرة صلعم). وبعد ستة أشهر من تولى الحسن ابن علي منصب الخلافة بمبايعة من أهل الكوفة في العراق، أرسل معاوية جيشا إليه، مما حمله على التنازل خاصة بعـد أن خـزله جنوده من الكوفيين ونهبوه وتخلوا عنه، ويقال إن أحدهم أصابه بطعـنة حـربة. مما جـعله يوافق على تسليم الخلافة لمعاوية بشرط أن تكون له أو لأخيه الحسين من بعده . فأرسل إليه معاوية صحيفة بيضاء تحمل توقيعه وخاتمه ليكتب فيها ما يشاء من شـروط. فأملى الحسن ـ بسذاجة ـ شروطه وزاد عليها أن يسدد معاوية عنه ديونه، وأن يجعل له الخـراج أو الجزية التي تأتي من الأهواز في جنوب العراق وأن يتسلمها كل عام، وأن يحمل إلى أخيه الحسين مبلغا من المال، وأن يفضل بني هاشم في العطاء على بني عبد شمس. ولما أرجعها إلى معاوية، قبلها على الفور دون أن ينظر فيها. وعاد الإثنان معا إلى الكوفة حيث أعلن الحسن في مسجدها عـن تنازله لمعاوي، ومن ثم بايعه الناس، فسمَّى الملفـقون ذلك العام بـ" عام الجماعة " التي ليس لها وجود أصلا، وذلك لإجماع المتأسلمين على خليفة واحد كما يزعمون، وتجاهلوا حقيقة أنه تم بالقوة العسكرية وتحت التهديد بالقـتل، ولا يمكـن أن يتم بغـير ذلك.

عاد الحسن بعد ذلك إلى يثـرب للعيش فيها، بينما لم يلتـزم معاوية بتنفيذ أي من تلك الشروط، ولم يستطع أحد ممن حوله أن يقول له إنه خان العهد. وعندما قدم إلى مكة للحج جاءه الحسن والحسين وابن عـباس وسألوه أن يفي لهم بما تعهـد به في وثيقة التنازل عـن الخلافة، فقال لهم: « أما ترضون يا بني هاشم أن نوفـر عليكم دماءكم، وأنتم قتلة عثمان؟ ». ولم يعطيهم ما تعهد به، بل وسعى بكل ما لديه من إمكانيات وبمساعدة من سـدنة الـدين إلى توطـيد مملكـته بالقضاء عـلى المعـارضين لحكمه مـن البدو الهاشميين ـ أسرة صلعم ـ، وعمد إلى أحياء العصبية القبلية بين البدو العـربان والمستعـربين المقهـورين في بلادهم، متبعا في ذلك أحـط الأساليب من قتل وغـدر ورشـوة وخيانة. فمثلا حرض ابنه يزيد على قتل الحسن بن علي بالسم الذي دسته له البدوية العاهرة جعدة بنت الأشعث، إحدى زوجات الحسن اللاتي بلغن تسعين زوجة. فقد كانت على علاقة بابنه يزيد، ووعدها بمئة ألف دينار وبتزويجها من ابنه إذا قتلت الحسن. ولما قتلته أعطاها المبلغ وأرسل لها يقول : « إنا نحب يزيد، ولولا ذلك، لوفينا لك بتزويجه »، وجاء في بعض المراجع أنه قال لها أيضا: « إنا لم نرضك للحسن، أفنرضاك ليزيد؟ » والرسالة كما نرى واضحة تماما.
إستدعى معاوية كبير الدجالين المدعو أبو هـريرة وأسكنه في قصـره في دمشق وتركه يمارس هوايته في إطلاق العنان لقريحته لتأليف وتوليف وفبركة الأحاديث المحمدية التي تعلي من شأن الأمويين وتحـط من شأن الهاشميين.

كما راح معاوية يمعن في الاستخفاف بعقول البشـر في محاولاته لتبريـر مسالكه ودروبه البدوية الانحطاطية وإكسابها صبغة دينية مـقـدسة، فـزعم أن الله اختاره للحكم وأتاه الملك، تبعا لقول القـرآن: « قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء » آل عمران 36. وأنه لذلك مجبر على الحكم بأمره والتصرف بمشيئته. وبعد أن انتهى من المشكلة مع الحسن قدم إلى يثرب فتلقاه أهلها بقولهم: « الحمد لله الذي أعـز نصـرك، وأعلى كعبك »، طبعا فوق رقابهم، وهكذا أنساهم الـنـفـاق والدجـل أن الضحية هو حفيد نبيهم الذي كانوا ينافقونه بالمثل قبل سنوات قليلة. لم يلتفت إليهم معاوية، وصعد المنبر وقال: « أما بعد، فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جادلتكم بسيفي هذا مجادلة »، وبلغت استهانته بعقول البشر قمتها، ومازالت في قمتها حتى الآن، عندما قال: « أيها الناس، إعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخـرة مني » وبذلك تخطى نبيهم وصحابته المنعوتين بالـراشدين وغير الراشدين وكافة علماء الدين المزعومين، وفاقهم في علمهم المـزيف الذي يملي عليه وعليهم أن يقوموا في الظاهر بآداء جميع فروض الدين كاملة، ويرتكبون في الخفاء كل الموبيقات والفواحش دون أن يسمحوا لأي قانون سماوي أو أرضي بالوقوف عقبة في طـريق تنفيذ مشاريعهم وتحقيق مآربهم. ومع ذلك يلاحظ قارئ التاريخ أن معاوية هذا هو آخـر من "كـرم الله وجهه"، ولم يستحق أحـد من بعده هذه الأمنية البدوية، لأن إله العـربان قـبَّح وجوههم جميعا!!!.

إتبع الخلفاء من البدو الأمويين هذا النهج بعد معاوية، بل وزادوا عليه، فظهر بين رجال الدين من يعطيهم الحق الإلهي في ازدراء المتأسلمين واحتقارهم أينما وجـدوا. ولم يروا في ذلك احتقارا للدين نفسه، لأنه كان ومازال مجـرد وسيلة لتمـرير وتبريـر الغايات الدنيئة والحقـيرة للبشر. فعمدوا إلى تلفيق الأحاديث النبوية وتأويل الآيات القرآنية التي تبرر اغتصاب الأمويين للحكم ومماراستهم الدنيئة والحقيرة. وبذلك أحاط الحكام الأمويون أنفسهم بهالة من القداسة المصطنعة، وأسبغوا عليها الكثير من الألقاب الدينية، الأمر الذي مازال متبعا وبعنف، ويعد سندا ممتدا ومتداولا يعاد إنتاجه مرارا وتكرارا حتى يومنا هذا.

وبناء على هذا النهج أقدم معاوية على أخذ البيعة من الجلاوزة والمنافقين المحيطين به لإبنه يزيد " وليا للـعـهد "، وذلك بأسلـوب تلفيقي واضح. إذ قام أحـدهم يدعى يزيد بن الـمــقنع وقـال :
« أمير المؤمنين هذا » وأشار إلى معاوية،
« فإن هلك فهذا » وأشار إلى يزيد،
« فمن أبي فهذا » وأشار إلى سيفه.
وحاول أحد الحاضرين أن يعبر عن اعتراضه بقوله : « إني أبايع وأنا كاره » فقال له معاوية : « بايع أيها الرجل {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} » النساء 343.

ولكن إلههم كما هو واضح لم يجعل أي خير لا في البدوي يزيد بن معاوية أو غيره.

عندما بايع الجلاوزة والمنافقون يزيد للخلافة عقب موت والده في عام 60هـ ـ 680م، امتنع الكثيرون من أهل يـثرب عن مبايعته، وكان في مقدمتهم بطبيعة الحال الحسين حفيد صلعم الذي طالما كتب إليه أهل الكوفة يدعونه إلى الخروج إليهم لمناصرته بجيش جـرار، ولكنه كان يرفض، ولما بويع يزيد في الشام، قـرر الذهاب إليهم بالرغم من أن أصدقاءه جميعا حاولوا إقناعه بعدم الركون إلى وعود الكوفيين، خاصة وأنهم خزلوا والده وأخاه من قبل. ولكن إغراءات السلطة والنفوذ جعلته يذهب إليهم. وعندما اقتربت قافلته من حدود العراق لم يجد أحدا في انتظاره، ولم يرى أثرا للجيش الذي وعدوه بلقائه، فأحس بالغدر والخيانة. وعسكر هو ورفاقه في كربلاء (عاشوراء 60هـ ـ 860م) على الشاطئ الغربي لنهـر الفرات، فباغتهم البدو الأمويون بقيادة عمر بن الصحابي سعد بن أبي وقاص وقتل الحسين ومعه 72 رجلا منهم من أبناء علي بن أبي طالب أربعة، ومن أولاد الحسن أربعة أيضا. ونجا من المذبحـة إبن وليد يدعى علي، تمكنت زينب أخت الحسين من إنقاذه، وقد لقب فيما بعد بـ"زين العابدين". وداس الأمويون جثث القتلى بأقدامهم وبحوافر خيولهم، وقطعوا رأس حفيد النبي " الكريم "، وحملوها إلى قلعة الكوفة حيث راح البدوي عبد الله بن زياد والي العراق يتسلى بالعبث بها قبل حملها إلى دمشق وإلقائها بين يدي أمير المتأسلمين، مثلما رموا من قبل رأس كعب بن الأشرف بين يدي رسول الله !!.

وكان لابد أن تروع مذبحة كربلاء هذه نفوس البدو المتأسلمين خاصة في يـثـرب، فأرسلوا الوفود إلى كربلاء في محاولة فاشلة لإرضاء الطرفين، وعندما أعلن اليثاربة خلع يزيد من الخلافة وطرد عامله من مدينتهم وجه إليهم الخليفة جيشا بقيادة البدوي مسلم بن عقبة بن نافع ليهزمهم في موقعة الحرة، واستباح كل شئ في المدينة "المنورة" لمدة ثلاثة أيام، تم خلالها سرقة ونهب سكانها واغتصاب ألف عذراء منهم. ووقعت مفاسد جسيمة ليس لها حدود ولا وصف، كما يقـول ابـن كثير، وقتل الأميون العديد من أهل النبي ومن صحابته المهاجرين والأنصار. ثم توجهوا صوب مكة حيث كان يحكمها البدوي عبد الله بـن الـزبير (ابن العوام) بناء على مبايعة له من قبل جلاوزته ومنافقيه عقب مبايعة يزيد في دمشق. إحتمى ابن الزبير في الكعبة {بيت الله العتيق}، فحاصرها الأميون وضربوها بالمنجنيق وأحـرقوها وهدموا سقفها، ولم يتوقفوا عن القتل والتخريب والتدمير والسلب والنهب والاغتصاب ويعودوا إلى دمشق إلا بعد أن جـاءهم خبر موت يزيد، الذي قـال عـنه المسعودي: « ليزيد أخبار عجيبة، ومثالب كثيرة من شـرب الخمر وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصي، وهدم البيت وإحـراقه، وسفك الدماء والفسق والفجور »، ويضيف السيوطي إلى هذا بقوله إنه: « رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشـرب الخمر ويدع الصلاة »، ويضيف الثعالبي ـ نصير الأمويين ـ بأنه كان « يزيد الخمور... يزيد الصقور... يزيد الفهود ... يزيد الصيود ... يزيد القـرود ... فخالف القـرآن واتَّبع الكهان ونادم القـردة وعمل بما يشتهيه حتى مضى إلى ذلك ».

مات يزيد بن معاوية في عام 64هـ ـ 683م وكان قد استخلف ابنه معاوية (الثاني) من بعده. وقيل عن معاوية هذا إنه كان شابا ورعا وتقيا، يمقت الجـرائم التي ارتكبتها أسرته، وأنه تعلم على عالم يدعى عمرو المفصوص، وحين آلت إليه الخلافة استشار معلمه، فأشار عليه بقـوله: « إما أن تعدل، وإما أن تعــتزل »، فآثر الاعتزال، وأعلن ذلك في خطبة أمام أهل دمشق، قائلا: « إني ضعفت عن أمـركم ...، فأنتم أولى بأمـركم، فاختاروا له من أحببتم »، ثم اعتزل ومات بعد أيام قليلة. وكالعادة اختلفت كتب التاريخ في سبب وفاته، فمنها ما يقول إنه أصيب بمرض الطاعـون، فلم يخـرج من بيته حتى مات، ومنها ما ذهب إلى القـول بأن الأمويين ـ كما هو معروف عنهم ـ دسوا له السم فمات، وذلك لعدم موافقتهم عليه وعدم اطمئنانهم إليه. ولعل السبب الثاني هو الصحيح، خاصة إذا عرفنا أن الأمويين ما لبثوا بعد موته أن قبضوا عـلى عـمرو بن المفصوص وأعـدموه بتهمة إفساد معاوية.

ولما مات معاوية خلفه أخوه خالد، وكان غلاما صغيرا، فرفض الأمويون مبايعته وطلبوا أن بتولي الخلافة أحد كبارهم، وذلك بمقتضى العرف القبلي البدوي، ووقع اختيارهم على مروان بن الحكم وهو من أبناء عـمومة معاوية بن أبي سفيان.

وفي بداية حكم مروان، الذي لم يدم طويلا، ظهر فريق من العراقيين الذين يناصرون أهل البيت ضد الأمويين، وأطلقوا على أنفسهم إسم " التوابين "، لأنهم ندموا على التهاون والتخاذل في نصـرة الحسين وآل بيته في معـركة كربلاء. وأقسموا على الانتقام من الأمـويين. وفي ذات ليلة اجتمعوا حول قبره وأقاموا الصلوات وزرفوا الدموع ولطموا الخدود حزنا عليه*29* وفي صباح اليوم التالي ساروا لملاقاة أهل الشام بقيادة سلمان بن صـرد، ولكن سرعان ما انهـزموا، فتراجع مـن بقى منهم على قـيد الحياة إلى الكـوفة، وفي عام 66هـ خـرج من بينهم المختار بن عبد الله الثقفي ومعه جمع كبير، ودعا إلى الأخذ بثأر أهل البيت، وقتل جماعة ممن قتلوا الحسين، إلا أن الأمويين أرسلوا إليهم جيشا بقيادة مصعب بن الزبير فقتل الكثيرين منهم وقتل المختار في عام 67هـ، فانقسم التوابون على أنفسهم وتفـرقوا شيعا وأحـزابا.

وكان مروان عند اختياره خليفة من قبل الأمويين قد وعد بأن تعطى الخلافة من بعده إلى خالد بن يزيد، وتزوج من امه (أرملة يزيد) بغية أن يكسب وده وود أنصاره من الأمويين وغيرهم. إلا أنه بعد أن استتب له الأمر نكث بوعده، وحمل الأمويين على مبايعة ولديه عبد الملك وعبد العزيز لولاية العهد بالتوالي من بعده. وفي يوم بالغ في إهانة الغلام الذي حرمه من ولاية العهد، فقامت أمه وقتلته في تلك الليلة. ويقول الثعالبي عنه إنه: « طريد رسول الله، عبد بطنه وفـرجه، تداولها بنوه بعده وقوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين والأنصار ولا التابعين بإحسان، فأكلوا مال الله أكلا ولعبوا بدين الله لعبا واتخذوا عباد الله عبيدا ». بطبيعة الحال لم يستطع الثعالبي مثل غيره من العملاء المنافقين أن يقول لنا من مِن أولئك البدو العـربان لم يأكل ما أطلقوا عليه مال الله أكلا أو لم يلعب بما زعموا أنه دين الله لعبا ... منذ ظهـر هذا الدين في صحـرائهم المقـفـرة.

على أثر مقتل مروان في عام 65هـ ـ 685م بايع الأمويون ابنه عبد الملك الذي عرف عنه قبل توليه الحكم أنه كان غاية في الـورع والزهد والتقوى، وأنه كان فقيها وناسكا وأقـرأ الناس للقـرآن، ولكن هذا البدوي الشاب بكل هذه الصفات الحميـدة، عندما علم بموت والده ومبايعـته للخـلافة كان المصحف في حجـره، فأطبقه، وقال : « هذا آخر عـهـدي بكَ ».

ولما حل موسم الحج في عام 71هـ كان المتأسلمون منقسمين على أنفسهم إنقساما شديدا، بحيث تجمع حجاجهم في تلك المناسبة على جبل عـرفات تحت أربع رايات مختلفة: الأولى لعبد الله بن الزبير الذي بويع للخلافة في مكة، والثانية لعبد الله بن مروان، والثالثة لمحمد بن بن عبد الله بن العباس (عم صلعم) المعروف بـابن الحنفية، والملقب بـ«المهدي» ، وكان إماما للشيعة، أنصار علي بن أبي طالب. وهو أول عباسي أظهر طموحه نحو الخلافة وسعى سعيا حثيثا ومنتظما لنيلها. والرابعة للخوارج. وبالرغم من العـداء الشديد الذي يكنه كل منهم للآخـر، فقد مـر موسم الحج هذا بسلام. وبعد انتهائه أرسل البدوي عبد الملك جيشا جـرارا بقياد السفاح الحجاج بن يوسف الثقفي لإخضاع ابـن الزبير مرة ثانية لسيطرته. فاستولى على يثرب دون مقاومة، وتوجه إلى مكة وحاصـرها وضرب {بيت الله العتيق} للمرة الثانية بالمنجنيق، مما أحدث في أرجاء المدينة " المكـرمة " الدمار والفوضى. وظلت تحت الحصار حتى عض الجوع أهلها بأنيابه، فشرعوا ينفضون من حول ابـن الزبير بأعداد كبيرة، ولم يبقى معه سوى عدد قليل. ولكنه لم يستسلم بناء على نصيحة أمه البدوية أسماء بنت أبي بكـر التي بددت مخاوفه من أن يمثل به الأمـويون بعـد قتله، بقولها الشهير: « إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها. فاقدم إلى ما أنت عليه »، وأقدم عبد الله بن الزبير، فقتله الأمويون وقطعوا رأسه وأرسلوها مع رأسين لاثين من قادته إلى دمشق كي يستمتع الخليفة العربي بمشاهدتها، ولم ينسوا عرضها على أهل يثرب في الطريق للموعظة. ثم سلخوا جلده وحشوه بالتبن، وصلبوا جثتة في مكة أمام عيني أمه بنت أبي بكر الصديق. حتى كتب عبد الملك إلى الحجاج فأنزلها وسلمها لأمه، وقيل أنها ألقيت في مقابر اليهود، إحتقارا له. وبعدما انتهوا من أعمال القتل والتدمير والسلب والنهب والاغتصاب طافوا حول بقايا الكعبة، شاكرين الله الصحراوي لأنه نصرهم على أعدائه.

بعد ذلك زار البدوي عبد الملك مدينة يثـرب، وصعد إلى المنبر وخطب في البدو المتأسلمين، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: « أما بعد، فلست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا الخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا الخليفة المأفون (أي الذي يتعاطى الأفيون، ويعني يزيد)، ألا وإني لا أداري أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتهم، إلى أن قال: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه، ثم نزل*30* ».

وبنى عبد الملك بن مروان المسجد المسمى بـ" الأقصى " وقبة الصخـرة الذهبية في القدس ودعا الناس إلى زيارتها بدلا من زيارة الكعبة، فصرف الناس عن آداء الحج، ولأن الناس على دين ملوكهم، فقـد كانوا يقفون يوم عـرفة بقبة الصخـرة.

وفي عهد هشام بن عبد الملك خـرج في عام 122هـ زيد بن علي زين العابدين أحد أحفاد علي بن أبي طالب ليعلن خلافته وقد بايعه كثير من الناس. ودار قتال بينهم وبين جيش الخليفة، قتل خلاله زيد فدفنه أعوانه سرا قبل هزيمتهم وفرارهم، وعثر يوسف بن عمر الجرحي على قبره فنبشه وقطع رأسه وأرسلها إلى الخليفة كي يتم صلبها على باب دمشق، وتم صلب الجثة في الكناسة وظلت مصلوبة حتى مات هشام وخلفه الوليد بن يزيد بن عبد الملك في عام 125هـ ـ 743م، فأمر بإزالـتها وحـرقها.

بعد مقتل زيد بن علي فـر ابنه يحيى إلى خرسان ثم سار منها مع جماعة من أعوانه إلى نيسابور، حيث هاجموا مجموعة من التجار العـربان وسلبوهم أمتعتهم وأموالهم ودوابهم. فتعقبه جند الخليفة الوليد حتى عثروا عليهم في عام 125هـ، وقتلوهم واحتزوا رأس يحيى وصلبوا جثتـه بالجوزجان وظـلـت مصلوبة حتى ظهـر أبو مسلم في خـرسان فأنزلها وصلى علـيـها ودفـنـها.
والوليد هذا هو الذي قال:

تلـعـب بالـنبـوة هـاشـمي بلا وحـي أتاه ولا كـتـاب

وهو بهذا يعلن عن حقيقة، عــرفها الأمـويون منذ البداية، ولكنهم فضلوا التقية حتى يتمكنوا، وقد مكنهم ابن عمهم عثمان من الاستيلاء على السلطة، واتخاذ دين العربان وسيلة للتسلط على الـرعـيـة. وهي أمـور كانوا دائما يتوقون إليها وينافسون الـهاشميين عليها قبل الفكـرة على يد محمد الهاشمي.

وقيل أن الوليد فتح ذات يوم المصحف، فوقعت عيناه على آية { واستفتحوا وخاب كل جبار عـنيد} فمزق المصحف ضربا السهام، وهو يخاطبه قائلا:

أتوعــد كل جـبــــار عـنـيـــد فها أنا ذاك جـبـار عنـيد
إذا ما جئت ربك يوم حشـر فقـل يارب مـزقني الـوليد

وحدث أن نكح جارية من جواريه وهو سكران، وجاء المؤذن يؤذن للصلاة، فحلف الوليد ألا يصلي بالناس إلا الجارية، فلبست ثيابه وصلـت بالمتأسلمين وهي جـنب وسكرانة.

ومن الأحـداث المضحكة المبكية في عصـر الأمويين أنه عـندما كــثر عـدد المخـنثين في يثرب أرسل الخليفة سليمان بن عبد الملك إلى واليها أبي بكر محمد بن عمرو الأنصاري كتابا يقول فيه «إحص المخنثين»، أي عدهم، فوقعت نقطة من الحبر على الحاء، فأصبحت "إخص المخنثين"، وعلى الفـور قام الـوالي بخصي كل المخنثين في المدينة. وكلمة "إحص" تدل على كـثرة عـددهم أنذاك لـدرجـة تتطلب إحصاءهم.

نكتفي بهذا القدر من هذه المزبلة التاريخية الإسلاموية وننتقل إلى مزبلة جديدة، شيدت على أنقاضها.

❉-;- العـباسـيون

قفز البدو العباسيون إلى السلطة، وهم ينتسبون إلى عباس بن عبدالمطلب عم النبي صلعم، وكانوا أكثر الناس معـرفة بطبيعة الفكـرة الإسلاموية الهشة ومصادرها وأهـدافها، فاستغلوها سياسيا في وقت مبكـر، إذ من المعروف أن العباس هذا هو الذي توسط لمحمد لدي اليثاربة لكي يلجأ إليهم ويبدأ بمساعدتهم عمليات الغزو والسلب والنهب والسبي والقتل ضد القوافل المكية وضد المعارضين لهما. حدث ذلك بعد مرور 13 عام على دعوته السلمية في مكة دون أن تحقق أي نجاح ديني أو سياسي يذكر. وكان العباس حينئذ وثنيا على دين أجداده، وظل هكذا، ولم يتأسلم لأغراض سياسية إلا عندما وجد أن محمد وعصابته أصبحت لهم الغلبة، أثناء غـزو مكة في السنة الثامنة بعد ذلك اللجوء العسكري المسمى بـ"الهجـرة"، .

وبعد موت محمد عارض العباس إختيار أبي بكر للخلافة لاعتقاده بأن أهل بيت صلعم أحق بها من غـيرهم، وصمت عن اخيتار عمـر، وفَـقَـد الأمل تماما في وصولهم إليها أثناء مسرحية اختيار عثمان، فقـد استاء للـيونة ابن أخيه علي بن أبي طالب خلالها، مما جعل الآخـرين يتكتلون ضده، ومن ثم يفلت الأمـر من بين أيديهم، على حـد قوله.

وابنه عبد الله المعـروف في كتب التراث الإسلاموي بـ" ابن عباس أو حبر الأمة " هو أول من أظهر الروابط الأسطورية بين الإسلام واليهودية، ونسبت إليه أيضا العديد من الأحاديث المحمدية الخـرافـية (أو الأسطورية)، وأقاويل تتحدث بالتفاصيل عن الجنة والنار وعـذاب القـبـر والإسـراء والمعـراج والطير الأبابيل ... وغير ذلك من من الدجـل والهـزيان.

ولقد رأينا فيما سبق أن الساحة السياسية شهدت نشوء جماعة الشيعة مـن العلـويين نسبة إلى عـلي بن أبي طالب وهم أيضا من أهل البيت، وكيلا يحدث تضارب بين الفريقين يتسبب في ضياع الخلافة مـرة أخـرى، إدعى العباسيون أنهم شيعة مثلهم ورفعوا شعارا خادعا هو "الـرضا من أهل البيت". وبينما كان العلويون يتعاملون سياسيا مع الأمـويين بسذاجة وتهـور، الأمر الذي كلـف الكثيـرون منهم حياتهم، كان العباسيون يخططهم للاستيلاء على السلطة في سـرية وتكـتم شديدين . واعتمدوا في ذلك على مساندة غـير العـرب (الموالي) في البلاد الأسيوية المحتلة لأسباب عديدة، أهمها: أنهم أكـثر المتأسلمين معاناة من ظلم وقـهـر الأمـويين المتعصبين لأصلهم البدوي العـرباني، وأنهم أقل المتأسلمين فهما لطبيعة الدين المفـروض عليهم، وطباع العربان الذين يتبنونه ويحكمون تحت غطائه، ولأن بلادهم تقع في أطراف الإمبراطورية الأموية الشاسعة، فتكاد تنعدم فيها عمليات المراقبة الأمنية من قبل السلطة المركزية في دمشق، لذلك كان من السهل على العباسيين إقناع الكثيرين منهم بمناصـرتهم ودعمهم، خاصة وقـد بدوا أمامهم على أنهم أهـل بيـت صـلعم والأحق من غـيرهم بخلافته، وأنهم ـ مع ذلك ـ يشاركونهم في التعـرض للذل والمهانة من الحكام الأمويين الكفـرة . وكما هو الحال المشبع بالخداع دائما وأبدا، صوَّروا المفاسد والمظالم الأموية لأولئك المتأسلمين على أنها خاصة بالأمويين وحدهم، ولا صلة لها بالإسلام . وأنها سوف تـزول بـزوال الأمويين، ووصولهم إلى الحكم، لتحل محلها التعاليم الإسلاموية الحقيقية من العدل والمساواة والأمن والـرخاء . بمعنى أن مساوئ الأمويين تعود إلى عدم الحكم بالشريعة، أو بشرع الله، أو بما أنزل الله ... إلى آخـره، وهذا الإتجاه المخادع بدأه الخوارج، ومازال مستعملا في كافة البلدان المتأسلمة، من قبل كل الجماعات الإرهابية منذ ظهـر هذا الدين وحتى يومنا هذا.

كان أبو مسلم الخراساني من أشد المناصرين للعباسيين، فأعلن الثـورة عـلى الأمويين في إقليم خـرسان الفارسي، وأعلن قيام الخلافة العـباسية، ثم انطلق بجيشه إلى كـربلاء في العـراق واستـولى عـليها، ونصَّـب أول خليفة عباسي في عام 132هـ ـ 750م، هو آبو العباس بن عبد الله بن محمد الملقـب بالسفاح أحـد أحفاد عـباس بن عبد المطلب .

أعطى السفاح الأمان لسليمان بن هشام بن عبد الملك وكبار القوم من الأمويين على حياتهم، ثم دعاهم إلى مأدبة عشاء، فـدخل عليهم الشاعـر سديف (الشريف) وقال لهم :

لا يغــرنك مــا ترى مـــن رجــــال إن تحـت الضلوع داءٌ دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فـوق وجهـها أموياً

وأمر السفاح بقتلهم (يقال عمه عبد الله بن علي هو القاتل) فقام أعوانه بضربهم بالشوم والسيوف، ثم بسطوا الأنطاع (الفـرش) فـوقـهم وجـلس عليها يأكل الطعام وهو يسمع أنين بعضهم حتى لفظوا أنفاسهم جميعا، وبعد أن فرغ من الطعام قال : « ما أكلت أشهى من هذا الطعام في حياتي ». ثم سير جيشا جرارا بقيادة أخيه أبو جعفر عبد الله بن محمد الملقب بالمنصور لإبادة الأمويين في دمشق، فلم يفلت منهم سوي عبد الرحمن بن معاوية المعروف بعبد الرحمن الداخل الذي تمكن من الفرار إلى قـرية أبي صير في مصر، وعـندما عـرف بأن العباسيين أرسلوا في أعـقابة فـرقة لـقـتله، هـرب إلى أخـواله من البربـر في المغرب، وبمساعدتهم تمكن من غـزو الأندلس وتأسيس الـدولة الأموية فـيها.

ولم يكتفي العباسيون بذلك، بل قاموا بنبش قبور الخلفاء الأمويين فلم يجدوا سوى جثة هشام بن عبد الملك مازالت صحيحة ولم يبل منها إلا أرنبة أنفه فضربوها بالسياط وصلبوها ثم أحرقوها وذروا رمادها في الريح . ولما تحرك الخوارج في عمان وقاتلوا السفاح قتالا شديدا، أضرم النار في بيوتهم وأحـرقها بمن فيها من الرجال والنساء والأولاد.

مات السفاح أبو العباس وعمره 33 عاما، فخلفه أخوه المنصور الذي يعد المؤسس الفعلي للدولة العباسية. وقد استهل المنصور خلافته بإرسال أبي مسلم الخرساني إلى عـمه عبد الله بن علي فقتله، كيلا ينازعه الملك أو يثير الشغب عـليه، ثم انقلب على أبي مسلم وقـتله.

كان أبو مسلم داهية يتسم بالذكاء والحـيطة، وكان له أتباع كـثيرون في خرسان والبلدان المجاورة لها، ولكن ـ كما يقول العربا, "لكل حصان كبوة"، فقد خانه دهاؤه وذهب إلى الخليفة رغم تردده الشديد واصطحب معه سبعماءة شخص من أعوانه. فاستقبله المنصور بحفاوة وقـربه منه، وعمد إلى تجريده من سلاحه، فقال له بلغني أنك غنمت سيفا ذهبيا من عمي، أين هو؟ فقال أبو مسلم على الفور: هذا هو، وأعطاه له، فوضعه المنصور تحت وسادته وراح يكيل له الشتائم والاتهمامات. ولما حاول أبو مسلم استعطافه قائلا: أتبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، قال المنصور: .... وأي عـدو أعدى منك!!؟؟، ثم أمر بقتله أمام عينيه. وكان قد جهز سبعماءة صرة بها مال، أمر بإلقائها مع رأس أبي مسلم لأعوانه من النافذة، فانكبوا على التقاطها، ثم انصرفوا تاركين رأس زعيمهم ملقاة على الأرض.

بعد مقتل أبي مسلم الخراساني خـرج من أهل خراسان عـدد غـفير من الناس بقيادة شخص يدعى سنباد، أرادوا الثأر لأبي مسلم، فسيَّر إليهم المنصور جيشا وهزمهم . ثم خرجت على المنصور جماعة أخرى من خراسان أطلقت على نفسها "الـراوندية" لنفس الغرض فحاربهم المنصور حتى استأصل شأفتهم وقطع دابرهم . ومازال الشيعة والسنة على حد سواء في إيران وفي تلك المناطق يبجلـون أبا مسلم ويعتـبرونه بطلا قـوميا .

وخرج كذلك على حكم المنصور على بن جعفر أحد أحفاد علي بن أبي طالب وهو الملقب بالنفس الزكية، فأرسل إليه المنصور كتابا يقول فيه:
« {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع آيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفون من الأرض ... }، وحاول مهادنته بقوله:
« ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله أن أؤمنك وجميع ولدك وأخوتك وأهل بيتك ومن أتبعهم ... »، فرد عليه النفس الزكية بقوله: « إن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء، ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد مثل نسبنا وشرفنا وحالنا ... فلسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ... أنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد لأنك أعطيتني من الأمان والعهد ما أعطيته رجالا قبلي، فأي الأمان تعطيني؟ أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم!؟ ».

فرد عليه المنصور بقوله: « إن بنت النبي لا يجوز لها الميراث ولا ترث الولاية، ولا يجوز لها الإمامة، فكيف ترث بها .. لقد حُـزْنا عليكم مكارم الآباء وورثنا دونكم خاتم الأنبياء ».
هكذا واشـرب من أكبر بحر أو إضرب رأسك في أتخن حائط . وظل به المنصور حتى قتله وصلب جثته .

هؤلاء إذن هم خلفاء صلعم أو خلفاء الله أو أمـراء المؤمنين الراشدين وأئمَّـة المتقين وحماة حمى الإسلام ورافعي لواء الشريعة الغبراء. وقِسْ عليهم كافة الوعاظ والدعاة وكل من يلتحف بالتأسلم ليخدع الناس ويسلب أموالهم ويغتصب نساءهم ويزهق أرواحهم لأن لهم في نبيهم أسوة حسنة.

إذن كُتِب علينا أن نجد أنفسنا دائما وأبدا أمام نوعية رديئة جدا من البشر . وقد امتد وجودهم وازداد عددهم وكثر بلاؤهم، وقد أوجدوا على مر العصور والأزمنه آلية لحمايتهم وحصانتهم تحت غطاء من التعاليم الهشة والأسوة الحسنة المتوغلة في فعـل الشرور.

الـنتـيجـة

قال حسين ديبان في مقال له بعنوان " تعـرفوا على نبيكم لعلكم تفلحون " : « لم يعد هناك أدنى شك بأن الإسلام شكَّل منذ انطلاقه في شبه حـزيرة العـرب وعاءا حاضنا لكل أنواع الاستبداد والطغيان والديكتاتورية، منذ دولة الطغيان الإسلامية الأولى التي أنشأها محمد بن آمنة في المدينة، وشكلت بأحداثها ونصوصها عامل إلهام لتلك الديكتاتوريات المستبدة التي خلفت إرث محمد، بدءا من ديكتاتورية الخليفة الأول أبو بكـر وبعده كل الديكتاتوريات، سواء تلك التي أتت في عصـر ما سمي بالخلفاء "الـراشدين"، ومن بعدهم، الديكتاتورية الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية، وصولا إلى ديكتاتوريات اليوم التي وجدت بأفعال محمد ونصوصه رصيدا دسما للارتكاز عليه في فعل كل محظور ومشين ولاإنساني*31* ».

لقد حاولنا فيما سبق ذكره كشف هذا الوعاء الحاضن لكل أنواع الاستبداد والطغيان القذر، ورأينا كيف أن البدو ادعـوا أنهم مستعـربون، ولذلك استعـربوا، وفرضوا التأسلم واللغة التي لا يفهم إلا بها على المنطقة برمتها، ونزعـوا مواطنيها من ثقافتهم الحضارية وجـردوهم من هـويتهم الـوطنية بالعنف والقتل، ومن ثم أدخالوهم فيما يسمى بـ" العـروبة " أو " الأمة الإسلامية " أو " العالم العربي أو الإسلامي "، وجميعها تعبيرات لا تعني شيئا ولا شيء، لأن كل شيء يبقى على حاله، معلقا بخيوط واهية وأحلام كاذبة وأوهام خادعة، ولكنه يخضع في نفس الوقت لسلوكيات صحـراوية لا إنسانية ومنحطة.

لقد تمكن البدو العربان من إزالة الهـويات والثقافات الـقومية لشعوب المنطقة وإحلال هويتهم الصعلوكية وثقافتهم البدوية الصحراوية محلهما، فحققوا بذلك مشروعا استيطانيا لا مثيل له في تاريخ البشــرية جمعاء، أدى إلى إفقارنا فكريا وانحطاطنا أخلاقيا وتدنينا سلوكيا وماديا على حد سواء، ومن هنا « قد يتبادر إلى الذهن أننا متخلفون لأننا فقـراء، ولكن الحقيقة تقول أننا فقـراء لأننا متخلفون، وأننا متخلفون لأننا فقدنا هويتنا لأننا استبدلناها بهوية بدوية سيطرت على العالم الإسلامي بحجة أنها هوية إسلامية وهي لا تعدو مخزونا ثقافيا لشعب الجـزيرة العربية الذي تتمحور هـويته حول رفـض العمل بكل أنواعه، فهي هوية لا تقدس العمل وتحتـقـره ... وانتقل احـتقار العمل من الشعـوب الـعـربية الغازية إلى كل العجم في العالم الإسلامي الآن خاصة مصـر والشام والعـراق وفارس وباكستان*32* ».

ويقـول بسام درويش إنه عـنـدما انطـلـق الأعـراب المتأسلمون من مكمنهم في الصحراء « لم يحملوا معهم مشعل حضارة إنما منجلا يحصدون به الأرواح ونارا يحـرقون بها المكاتب، وفؤوسا يهدمون بها كل ما يقف في وجوههم. كانوا غزاة أوباشا وجهلة لم يعرفوا من الحضارة حتى إسمها*33* »، وأحالنا درويش إلى مقال للدكتور كامل النجار يقول فيه: « في بداية الفتوحات والاحتلال الإسلامي، الذي كان احتلالا استيطانيا، حاول المسلمون طمس ومحو كل الثقافات غير المسلمة حتى يستتب الأمـر للإسلام ». وينقل النجار عن ابن خلدون في تاريخه، ج1، ص631 « أنه لما فتح المسلمون أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى، فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفاناه الله. فطرحوها في الماء أو في النار. وكذلك عندما فتحوا الإسكندرية أحرق عمرو بن العاص مكتبتها. وبما أن الاحتلال الإسلامي كان استيطانيا، فقد أسكنوا العـرب في الديار المستعمرة حتى يمحوا هوية الشعوب المغلوبة ». وأتي النجار بأمثلة عديدة في هذا الشأن، ثم قال: « ففي هذه الفترة من تاريخ جزيرة العرب لم يقدم العرب ولا الإسلام شيئا لحضارات الشعوب المغلوبة، بل عـلى العـكس دمـروها ومحوها من الوجود*34* ». ولأنهم منتصرون فلم يتركوا للمهـزومين أي وجه إيجابي. فقد عمدوا إلى تصـوير الحضارات العريقة في البلاد المستوطنة وشعوبها تصويرا بالغ السلبية والسوء. وادعوا أنهم جاءوا إليهم لإنقاذهم من الضلال الذي يعيشون فيه ومن الهلاك الذي ينحـدرون إليه.

وهكذا اكتملت فصول المأساة بانتقال الفكرة الهشة على حد السيف إلى البلاد المجاورة شرقا وغربا ليتلقفها العملاء ـ سواء كانوا حكاما أو رجال دين ـ واستغلوها لأغـراضهم السياسية حتى يومنا هذا، تماما كما كانت ومازالت تستغل في المنبع من قبل صلعم وصحابته وأحفاده البدو العـربان. لذلك نكتفي بهذا القدر من السـرد التاريخي المأساوي " للسلف الصالح ". كما يصفهم الأقـذار، وما هم في الحقيقة سوى شخصيات مـريضة نفسيا وسلوكيا.

لقد ذكرنا في بداية هذا الكتاب أن كل قالوه عن أنفسهم من مدح وتقريظ وراح يردده كافة المتأسلمون كالببغاوات، يجب أن يقلب إلى عكسه من الزم والتحقير حتى ينطبق تماما عليهم وعلى سلوكهم وحياتهم بكاملها.

إننا نعيش إذن كارثة إنسانية لا نظير لها في تاريخ البشرية، حلت بالمنطقة وامتدت آثارها إلى بقاع العالم المختلفة منذ ما يقـرب من 1500 عام. وقد لا يستطيع المـرء أن يمنع الكوارث أو يتفاداها، ولكنه بلا شك يتعلم منها ويحاول الخـروج منها سالما معافى، أما أن يتكيف معها ويتباهى بها، فهذا هو الأمر الشاذ فعلا، ولا يمكن أن يصدقه عقل سوي على الإطلاق.
ولقد كتب البقاء لهذه الكارثة طوال هذه الفترة على أيدي العملاء والدجاين والأفاقين وقطاع الطـرق، بالتضامن مع حكام المنطقة العجزة والجهلة الذين يرتزقون جميعا من ورائها. ووجد أحفاد الصعاليك في أموال النفط وسيلة لإطالة أمدها، ونشر مبادئها البالية والمتخلفة والحقـيرة.

هذا الأمر يجعلنا نعود مـرة أخـرى إلى منبع الفكرة، لـنرى ماذا حـدث وماذا يحدث هناك لأحفاد صلعم، وما آثار الصعلكة المحمدية عليهم.

الهوامش:
*1* أي لا ننهض بهم [الناس] إلا إلى الخبل وفساد العقل.
*2* محمد سعيد العشماوي: الخلافة الإسلامية ، مصدر سابق ، ص 87 . وجوهر الإسلام ، ط3، ص61، دار سينا للنشر، القاهرة 1993 .
*3*المستشار محمد سعيد العشماوي: الخلافة الإسلامية، ط2، ص117، مصدر سابق.
*4* د. سيد القمني : شكرا ... بن لادن!! ، ط1 ، ص 280 ، دار مصر المحروسة 2004 .
*5* إرشاد منجي : الخلل في الإسلام http://www.muslim-refusenik.com/arabic.html
*6* كلاوس كلير: خالد وعمر، بحث نقدي في مصادر التاريخ الإسلامي المبكر، ترجمة محمد جديد، قدمس للنشر والتوزيع ط1، دمشق 2001م.
*7* رسالة الغفـران لأبي العلاء المعـري، ص41 وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري، تاريخ الرسل، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصـر ج2، ص 284.
*8* تاريخ الطبري، مصدر سابق. ج2، ص230
*9* محمود شلبي: حياة عـمـر، ط2، ص 5، دار الجيل ، القاهرة، بدون تاريخ.
*10* هو حلول الشر أو العذاب، أنظر المعجم الوسيط ج2، ط3، ص1104، مجمع اللغة العربية، القاهرة، بدون تاريخ. وقال المفسـرون إنه وادٍ في جهنم.
*11* لمزيد من هذه الفبركة وغـيرها يمكن الرجوع إلى: الاستيعاب لابن عبد البر، ولباب النقول للسيوطي، طبعة الشعب.
*12* التفاصيل في كتاب أقباط ومسلمين منذ الفتح العربي إلى عام 1922م، تأليف د. جاك تاجر، ترجمة ونشر الهيئة القبطية في أمريكا وكندا واستراليا عام 1984م. وأيضا كتاب تاريخ الأمة القبطية، تأليف السيدة ا. ل . بتشر الإنجليزية، مطبعة مصـر بالفجالة عام 1900م وهو كتاب أثري منشور في 6 أجـزاء على صفحات الإنترنت.
*13* شمس الدين السرخسي: المبسوط مجلد 3، باب نكاح البكر، باب الأكفاء، ص24، ط986، دار المعرفة ، لبنان.
*14* د. أحمد صبحي منصور: أهم القضايا في سيرة عمر: المسكوت عنه في تاريخ عمر منشور في:www.arabtimes.com
*15* ابن سعد: الطبقات الكبري، ج2، ص253.
*16* أنظر تفاصيل هذه الواقعة المشينة في المراجع التالية: وفيات الأعيان لابن خلكان، ج6، ص 266. كتاب النهاية والبداية لابن كثير، ج 7، ص 73. الأغاني لأبي فـرج الأصفهاني، ج16، ص 108. وشـرح نهج البلاغة للمدائني، ج12، ص 149. وغيرها كثير.
*17* السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص109، مصدر سابق.
*18* خالد محمد خالد: وداعا عثمان ، دار المعارف بمصر
*19* سيد أمير علي: مختصر تاريخ العرب، مصدر سابق
*20* سيد أمير علي: مختصر تاريخ العرب، مصدر سابق
*21* خالد محمد خالد: وداعا ... عثمان، دار المعارف بمصـر، بدون تاريخ
*22* سيد أمير علي: مختصر تاريخ العرب، مصدر سابق
*23* عباس محمود العقاد: الصديقة بنت الصديق، ط11، دار المعارف القاهرة 1982.
*24*عباس محمود العقاد: الصديقة بنت الصديق، مصدر سابق.
*25* د .عبدالرحمن بدوي: شخصيات قلقة في الاسلام، ط 3، وكالة المطبوعات ـ الكويت 1978.
*26* شامل عبد العزيز: عبد الله بن سبأ اليهودي ونظرية المؤامرة، مقال منشور على الحـوار المتمدن http://www.rezgar.com
*27* Nevo, Yahuda D.: Towards a Prehistory of Islam, Jerusalem Studies in Arabic and Islam, vol. 17, Hebrew University of Jerusalem, 1994. Page 109.
*28* نفس المصدر، ص 110.
*29* مازالوا يفعلون الشيء نفسه حتى اليوم.
*30* للمزيد حول هذا الإجـرام يرجا الاطلاع على كتاب المستشار محمد سعيد العشماوي: الخلافة الإسلامية، سيناء للنشر، ط 2 ، القاهـرة 1992 ص 129- 154.
*31* الحـوار المتمدن http://www.rezgar.com في 18 إبريل 2008
*32* الزيني - إسماعيل : شبه جزيرة العرب ، مصدر سابق ، ص 20 .
*33* بسام درويش: نعم، الإسلام رمز للتخلف http://www.annaqed.com.
*34* د. كامل النجار: ماذا قدم العرب والمسلمون للحضارة؟ على صفحة الإنترنت:
http://www.annaqed.com/category.aspx...lectedreadings

__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس