هجرة اهالي ازخ الى مريبة
هجرة اهالي ازخ الى مريبة
(سنة 1965 - 1966)
الهجرة كانت صفة ملازمة لاهالي قرية ازخ منذ القديم , فقد كثرت هجراتهم وتعددت , وخاصة بعد منتصف القرن العشرين بحيث اصبحوا يعيشون في حالة هجرة دائمية بسبب الظروف الامنية السائدة في المنطقة , ثم تفاقم الوضع اكثر في نهاية القرن مع بداية الهجرة الى الخارج وخاصة الشباب ..
ونستطيع ان نقسم الهجرات التي حصلت في ازخ الى اربعة انواع وحسب الفترات الزمنية التالية وهي نفسها لجميع قرى ابناء شعبنا في شمال العراق :-
+ الهجرات القديمة - وهي الهجرات التي حصلت منذ القديم والى منتصف القرن العشرين .
+ الهجرات الحديثة - وهي الهجرات التي حصلت بعد منتصف القرن العشرين والى نهايته .
+ الهجرات المعاصرة - وهي الهجرات التي حصلت في اواخر القرن العشرين الى خارج العراق وما زالت مستمرة .
+ الهجرة المعاكسة - وهي الهجرة التي بدات الان مع عودة بعض ابناء القرية اليها من بغداد ومدن اخرى .
ولتوضيح هذه الهجرات نعطي نبذة قصيرة عن كل واحدة منها وبقدر ما تتوفر لدينا من معلومات .
* الهجرات القديمة :-
وهي الهجرات التي حصلت لاهالي ازخ منذ القديم , وهي قليلة وليس لدينا اية معلومات عنها باستثناء حالات معدودة منها . واسباب هذه الهجرات كانت مختلفة ولكن معظمها كانت لاسباب معيشية نتيجة المجاعات التي حصلت في فترات الجفاف , او لطلب حياة افضل , او لاسباب خاصة ..
ولا تتوفر اية معلومات عن معظم هؤلاء الذين هاجروا القرية ( باستثناء حالات معدودة ) بسبب انقطاع اخبارهم عن القرية بمرور الزمن وصعوبة المواصلات ..
*الهجرات الحديثة :-
اما الهجرات التي حصلت بعد منتصف القرن العشرين فقد كثرت وتعددت بسبب الظروف الامنية في المنطقة وخاصة بعد نشوب الحركة الكردية في شمال العراق سنة 1960 .
وكان اهالي القرية يضطرون لترك بيوتهم كل بضع سنين عندما تتعرض القرية الى القصف بالطائرات والمدفعية , وان معظم اهالي القرية يتذكرون احداث وتفاصيل هذه الهجرات التي كانت كثيرة بسبب كون القرية تقع على الخط الفاصل بين المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية والمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة العراقية ( اي على خط النار او في جبهة القتال دائما ) . وفي كل مرة مع نشوب الحركة الكردية يقوم المقاتلين الاكراد بالسيطرة على تخوم مناطقهم الجنوبية وبضمنها هذه المنطقة التي تقع فيها قرية ازخ , وبذلك تنعزل القرية عن المناطق الجنوبية التي تبقى خاضعة لسيطرة القوات الحكومية ( علما انها تعتبر مصدرالحياة للقرية من حيث التسوق ) , وايضا تنعزل القرية عن المناطق الشمالية المتاخمة لتركيا وذلك لبعدها عن هذه المناطق وصعوبة المواصلات لوعورةالجبال ورداءة الطرق ..
ولذلك تسوء احوال اهالي المنطقة كلها بسبب عدم استطاعتهم من بيع منتجاتهم من ناحية وشراء حاجات ومستلزمات حياتهم الظرورية لا من المدن الجنوبية الخاضغة لسيطرة الحكومة والتي تعتبر المصدر الرئيسي لهم , ولا من المناطق الشمالية التي تاتيها البضائع من تركيا حيث يتعذر ذلك بسبب المسافة البعيدة وصعوبة الوصول اليها من ناحية وتعرض المنطقة للقصف بالطائرات والمدفعية من ناحية ثانية .. وهكذا تسوء احوال اهالي القرية وتتدهور كلما طالت فترة المواجهة بين المقاتلين الاكراد والقوات الحكومية ويتعرض الاهالي الى اوضاع معاشية صعبة للغاية , هذا من ناحية الجوانب الحياتية .. واما من ناحية الظروف الامنية فيكون الوضع اسوء من ذلك بكثير .. لان القرية وكما ذكرنا تقع على الخط الفاصل بين الطرفين , وبذلك تكون اول من تتلقى الضربة والتي تكون عادة اشد واقوى في بدايتها , وتتعرض المنطقة الى القصف الكثيف بالطائرات نهارا وبالمدافع ليلا .. وتصبح القرية والمنطقة تحت الاقدام عندما تتقدم القوات الحكومية ( الجيش ) والقوات المتجحفلة معها والتي كانت تسمى بالفرسان ( الجتة) وهذه كانت اخطر لانها اول من تتقدم لتحتل المنطقة وتكون مهمتها القتل والحرق والسلب والنهب وتدمير كل شيء ..
تحت هذه الظروف كان اهالي القرية يضطرون لترك بيوتهم وممتلكاتهم ويهاجرون الى مناطق بعيدة لينجون بارواحهم وعوائلهم واطفالهم من الموت تاركين خلفهم كل حاجياتهم وكل ما يملكون داخل بيوتهم لتحرق او لتنهب وتسلب ..
وهذه الماساة كانت تتكرر كل بضع سنين حيث تبدا المفاوضات مجددا بين الطرفين بعد كل جولة من القتال وتستمر لفترة قصيرة لتنتهي بعدم الاتفاق على شيء وتتكرر الماساة من جديد وتكون اشد واعنف في كل مرة من سابقتها ..
* الهجرات المعاصرة :-
وهي الهجرة الى الخارج وقد بدات هذه الهجرة مع نهاية القرن العشرين وهي مستمرة لحد الان وفي تزايد وخاصة من قبل الشباب , وذلك بسبب الظروف الامنية والحياتية التي كان يمر بها العراق بشكل عام , وهي مشكلة كل ابناء شعبنا في العراق حاليا , بسبب الحروب الكثيرة والاقتصاد المتدهور وسوء الاحوال المعاشية وتدهور الوضع العام يوما بعد يوم , اجبر الكثير من ابناء شعبنا للهجرة الى الخارج بحثا عن الامن والامان والمستقبل الافضل .. حيث هناك الكثير من ابناء القرية الذين هاجروا الى دول مختلفة مثل الولايات المتحدة الاميركية وكندا واستراليا ودول اوربية مختلفة , وهناك من مايزال يحاول الهجرة الى الخارج ..
الهجرة المعاكسة :-
وهي الهجرة التي بدات الان مع عودة بعض ابناء اهالي القرية اليها من بغداد ومدن اخرى بسبب الظروف الامنية والحياتية الصعبة السائدة في بغداد وبقية المدن الاخرى بعد سقوط نظام صدام حسين الذي كان السبب الرئيسي في معظم الهجرات السابقة لكل اهالي المنطقة الذين اضطروا لترك قراهم في السابق , وحيث اصبحت الان الظروف مؤاتية للعودة الى المنطقة كلها بعد ان اصبحت تنعم بالسلام والامان والاستقرار وشهدت ازدهارا ملموسا في كافة نواحي الحياة وتوفر الخدمات الاساسية للحياة وتحسن الظروف المعيشية في عموم شمال العراق وتحديدا في اقليم كردستان العراق .. .
ومن هذا نرى بان اهالي قرية ازخ قد كثرت هجراتهم وتعددت واعتادوا لترك بيوتهم والهجرة كلما ساءت الظروف وكلما تقدمت القوات الحكومية الى المنطقة .
واحدى هذه الهجرات هي الهجرة التي نحن بصددها , وهي هجرة اهالي ازخ الى مريبة سنة 1965 - 1966 .
هجرة اهالي ازخ الى مريبة :-
هجرة اهالي ازخ الى مريبة لم تكن الاولى لهم ولا الاخيرة , ولم تكن الاهم ايضا , حيث سبقتها هجرات كثيرة وتبعتها عدة هجرات ايضا , وبعضها كانت اقسى واتعس منها .. ولكنني ساتناول هذه الهجرة بالذات لعدة اسباب منها ان هذه الهجرة كانت الاخيرة لي انا شخصيا من القرية , حيث لم اعد بعدها الى القرية بشكل دائمي بالرغم من بقاء معظم اهلي هناك , بل كنت اعود اليها لفترات قصيرة في العطل وعندما كانت تسمح الظروف بذلك , وكذلك لانني اتذكر احداث هذه الهجرة وبعض تفاصيلها بشكل لاباس به بعكس الهجرات التي سبقتها حيث انني لا اتذكر منها الا ما ندر , واما الهجرات التي تلتها فقد سمعت بها كلها ولكني لم اعش احداثها وتفاصيلها ولم اكن معهم , والسبب الاخر وهو الاهم وهو ان هذه الهجرة بالرغم من قساوتها وماساتها ومرارتها , الا انه كان لها التاثير الكبير في حياتي انا شخصيا وحياة الكثير من ابناء اهل القرية الذين كانوا بنفس عمري واصغر مني , حيث بسبب هذه الهجرة اتيحت لنا فرصة التعلم والذهاب الى المدرسة لاول مرة , ولولا هذه الهجرة لفاتتنا الفرصة نحن ايضا كما فاتت من الذين كانوا اكبر منا سنا ..
وساتناول هذه الهجرة كما اتذكرها وقد مر عليها 40 سنة , وقد لا تكون بعض الاحداث كاملة او قد لاتحتوي على كل التفاصيل , لاني ساذكر الذي شاهدته انا شخصيا وما بقي منه في ذاكرتي , وبالتاكيد فهناك احداث اخرى قد فاتتني ولم الاحظها انا او قد نسيتها خلال هذه المدة الطويلة ...
ومريبة هي مدينة يسكنها اكراد , و تقع الى الشمال الشرقي من الموصل , وفي منتصف المسافة تقريبا بين قضائي الشيخان ( عين سفني ) وعقرة , واما بالنسبة الى قرية ازخ فانها تقع الى الجنوب الشرقي منها وعلى مسافة بضع ساعات مشيا على الاقدام , وهي تقع في اعلى سهل نينوى وامام جبل صغير , ولهذا كانت المدينة دائما تحت سيطرة القوات الحكومية , واما الجبل وما خلفه من المناطق فكانت خارج سيطرة الحكومة , او تحت سيطرة المقاتلين الاكراد , وبذلك يصبح هذا الجبل غالبا منفذا سريا للطرفين ويكون الدخول الى مريبة والخروج منها ممكنا وخاصة في الليل ..
ففي عام 1965 ساءت العلاقات بين الحكومة العراقية والاكراد مرة اخرى بعد ان فشلت المفاوضات الجارية بين الطرفين وانتهت الى غير نتيجة , وبدات القوات الحكومية بقصف المناطق الشمالية بالطائرات والمدفعية . . وكان اهالي قرية ازخ قد تعودا على ذلك في السنوات السابقة وكانوا قد تعلموا كيف يتصرفون تجاه ذلك , وكيف يحمون انفسهم من قصف الطائرات والمدفعية التي كانت بشكل يومي تقريبا , وحتى نحن الاطفال كنا قد تعلمنا تلقائيا كيف نتصرف تجاه ذلك حيث كنا عندما نسمع صوت الطائرة نتمدد على الارض فورا ولا نتحرك لحين مرورها من فوقنا ثم نركض بسرعة الى اقرب مخبا مناسب مثل كهف او وادي او ساقية او نختبيء تحت الاشجار , واما للاحتماء من قصف المدافع فكان الامر يختلف قليلا , فقد كنا قد تعلمنا انه عندما نسمع دوي اطلاق المدفع ( وكان يسمع عندما يطلق من الشيخان والمناطق المحيطة بها ) نركض بسرعة منحني القامة ونختبيء خلف الصخور او السواتر من جهة الشمال بعكس اتجاه اطلاق المدافع التي كانت تطلق عادة من الجنوب .
وكانت الحياة اليومية تسير بهذا الشكل والاهالي يزاولون اعمالهم في الحقول والبساتين تحت هذه الظروف الصعبة , ولكنها لم تكن لتدم هكذا طويلا حيث تسربت الاخبار الى مسامع اهل القرية وعرفوا بنية القوات الحكومية بالتقدم الى المنطقة , فاصبح الامر اكثر خطورة وخاصة في الليل لان التقدم يكون عادة في الليل , فاصبح البقاء في القرية والمبيت في البيوت ليلا مغامرة في غاية الخطورة .. ولهذا قرروا ترك القرية وعدم النوم في البيوت ليلا , والتجاؤا الى( الكلي ) الذي خلف القرية والذي يسمى باسمها ( اي كلي ازخ او كليا دماثا ) وفيه الكثير من الكهوف والمخابيء .. وانقسموا الى مجموعتين او اكثر , مجموعة اختارت الذهاب الى كهف يسمى ( كوبا دصلمي ) ويقع في اعلى وادي يتفرع من مدخل الكلي ويرتفع شرقا الى اعلى الجبل حيث يقع هناك هذا الكهف , وهو كهف عميق ويمتد الى الداخل ويتسع لبضع عوائل تفرش مناماتها جنبا الى جنب .. والمجموعة الاخرى اختارت الذهاب الى كهف اخر يقع في وسط الكلي تقريبا ويسمى ( كوبا ديوني ) اي كهف الحمام , ويقع في جوف الكلي وعلى سفحه الشرقي .. ومجموعة ثالثة اختارت لها مخابيء صغيرة منتشرة في جوف الكلي ..
وكانت عائلتي من المجموعة التي اختارت كهف ( كوبا ديوني ) الذي يقع في جوف الكلي .. وساصف هذا الكهف بقدر ما بقي منه في ذاكرتي ...
يقع الكهف في منتصف الكلي تقريبا وعلى سفحه الشرقي وعلى ارتفاع ما يقارب ( 20 ) مترا من قعر الوادي , والسفح امامه شديد الانحدار , حيث كنا نتسلقه الى الكهف بصعوبة بالرغم من انهم كانوا قد عملوا لنا طريق ملتوي يلتف يمينا ويسارا بين الاشجار وخلف الصخور ليسهل عملية الصعود الى الكهف , وكان غالبا ما ينزلق احدنا ويسقط ليتدحرج فنمسكه او ليستقر خلف شجرة او يرتطم بصخرة .. واما الكهف بحد ذاته فهو غريب بعض الشيء , فهو يتكون من ثلاث طوابق , وقد يستغرب القاريء الكريم من كون الكهف يتكون من ثلاث طوابق , ولكنه فعلا يتكون من ثلاث طوابق , فعندما تصل الى الكهف ستجد على يسارك مغارة تمتد تحت الكهف وهي بمساحة غرفة صغيرة سقفها منخفض وارضيتها تراب رطب , كان ينام فيها بعض كبار السن والعجائز الذين يتعاجزون من الصعود الى الكهف , واما على جهة اليمين فهناك بضع درجات ترتفع لتصل الى مدخل او فوهة الكهف الامامية , وهي دائرية الشكل تقريبا وواسعة ( قطرها اكثر من 3 امتار ) مفتوحة على الوادي وفي سقفها وجدرانها شقوق كثيرة يكثر فيها اعشاش الحمام ( ولهذا سمي الكهف بكهف الحمام - كوبا ديوني ) وارضيته صخرية متعرجة , وكان يستخدم هذا الجزء للجلوس في النهار وقبل النوم , وكان ايضا ينام فيه بعض المتطوعين الذين يكون نومهم خفيفا لكي يتنبهوا الى اية حركة تحصل في الوادي ليلا لينتبهوا قبل حدوث اي مكروه , وفي صدر هذا الجزء من الكهف كان هناك فتحتان دائريتان قطر الواحدة منها يزيد قليلا عن المتر وعلى ارتفاع ما يقارب المتر ايضا , احداهما في زاوية اليسار والثانية في المنتصف , يؤديان الى تجويف كبير دائري الشكل وبنفس حجم الجزء الاول تقريبا , وكان هذا الجزء هو المخبا الداخلي للكهف وفيه كان ينام معظم الاهالي .. واتذكر ان المرحوم والدي كان قد حجز لنا مكانا في الوسط حيث كانت الارضية مستوية قليلا بعض الشيء بعكس ما حولها حيث كانت الارضية صخرية ومتعرجة .. وفي هذا المكان كنا نحن الاطفال نتجمع ليلا حول احدهم ليقص لنا قصص وحكايات الاطفال الى ان كنا ننام دون ان نعرف بانفسنا , وكانت ليالي مظلمة ومخيفة حقيقة , ولكنني شخصيا اتذكرها واشتاق الى تلك الحكايات اكثر مما اتذكر الليالي التي قضيتها في فندق ( لا بلازا ) ذو النجوم الخمسة في مدينة بازل السويسرية القريب من كورنيش نهر الراين , ليس لاننا كنا فرحين او نشعر بسعادة او اطمئنان .. لا ابدا , ولكن لانها كانت ايام الطفولة التي نشتاق اليها دائما حتى ولو كانت مرة ..
وهكذا كنا ننام في هذا الكهف ليلا واما في النهار فننزل الى الحقول والبساتين مع اهلنا للعمل ..
ولكن الحال لم يبقى هكذا ايضا حيث كان القصف يزداد ويشتد يوما بعد يوم والاحوال تسوء اكثر فاكثر واصبحت القوات الحكومية بصدد التقدم الى المنطقة للسيطرة عليها .. وفعلا تقدمت القوات الحكومية وسيطرت على اتروش التي تقع الى الغرب قليلا من ازخ ووصلت الى القرية ايضا فوجدتها خالية ثم تمركزت على قمم الجبال التي امام القرية والمرتفعات التي بينها وبين اتروش واصبحت مشرفة على جميع الاراضي والمناطق المحيطة بها واولها واقربها ازخ .. ولهذا اصبحت الحركة في هذه المناطق مستحيلة ولم يعد باستطاعة اهل القرية النزول الى الحقول والبساتين نهارا , واقتصر ذلك على بعض الاعمال الضرورية ليلا مثل سقي المزروعات وجني بعض ما يحتاجونه لطعامهم اليومي ..
وحدث ان قصفت القرية بالطائرات وكذلك قصفت قرية هرماشي المجاورة وقصف اهلها وهم جميعا في كهف في الجبل الذي خلفها , وفيها قتل ثلاث نساء وجرح معظم اهالي قرية هرماشي وخاصة الاطفال والنساء , وكانت هذه فاجعة فعلا .. وفي الليل اسرع جميع الرجال لنجدتهم ومساعدتهم في هذه الكارثة وتمكنوا من جلب مضمد من منطقة شكفتي التي تبعد مسافة بضع ساعات مشيا , والتي كانت مقر لقائد قوات منطقة باهدينان ( وكان هذا المضمد من القوش ملتحق مع القوات الكردية ) , وبذل جهود كبيرة في تضميد الجرحى .. وعلى اثر هذه الفاجعة قرر اهالي هرماشي ترك المنطقة والهروب منها حفاظا على حياتهم وحياة عوائلهم واطفالهم , ولم يكن امامهم سوى ( مريبة ) حيث كانت المنفذ الوحيد امامهم .. وهكذا تركوا المنطقة بعد ثلاثة ايام بعد ان دفنوا الموتى وضمدوا الجرحى وهاجروا الى مريبة ..
ولهذا شعر اهالي ازخ بان حياتهم هم ايضا اصبحت في خطر حقيقي ولم يعد باستطاعتهم البقاء في المنطقة بعد ان تركوها اهالي هرماشي فقرروا هم ايضا ترك المنطقة , ولم يكن امامهم سوى خيارين اثنين .. اولهما ان ينتقلوا الى المناطق الشمالية ليصبحوا بعيدين عن انظار القوات الحكومية وخارج مدى القصف المدفعي , ولكن المشكلة كانت انهم لا يملكون شيئا ولا يوجد شيئا يعملونه هناك وسيتعرضون حتما الى مجاعة وخاصة انهم على ابواب الشتاء وسيموت الاطفال من الجوع والبرد .. واما الخيار الثاني فهو ان يذهبوا الى المناطق الجنوبية التي تسيطر عليها القوات الحكومية , وهنا لم يكن امامهم سوى مريبة التي ذهبوا اليها اهالي هرماشي حيث انه المنفذ الوحيد لهم الى الجنوب .. ففضلوا هذا الاختيار وقرروا الهجرة الى مريبة وتم التنسيق على ذلك بين المجموعات المنتشرة في الوادي .. وكان لزاما التحرك في الليل لكي لا يكونوا على مرءة من القوات الحكومية وخاصة بالنسبة الى المجموعة التي في كهف كوبا ديوني وفي جوف الكلي ( وكنت وعائلتي معهم ) وهكذا انتظرنا الى الليل وحلول الظلام بعد ان تم حزم الامتعة والمستلزمات الظرورية جدا وجعلها على شكل احمال , حيث كان لزاما على كل فرد ان يحمل امتعته على ظهره وحتى الاطفال كان يجب ان يحملوا بعض الامتعة والحاجيات الخفيفة , واما الافرشة والاشياء الثقيلة فكانت تحمل على ظهور الحمير , حيث كان يجب على كل عائلة ان تملك واحدا على الاقل ...
وهكذا ومع حلول الظلام تحركنا جميعا والكل محمل بامتعته وانحدرنا الى مدخل الكلي خلف القرية ثم اتجهنا شرقا الى الطريق المؤدي الى هرماشي .. وكان القلق والخوف ينتاب الجميع ونحن نسير بحذر شديد وهدوء تام وسط سكون الظلام الدامس , وكان الرجال يحذروننا من التكلم وينبهوننا من التعثر .. وهكذا سرنا الى ان وصلنا الى خلف هرماشي وشعرنا بنوع من الارتياح والاطمئنان لاننا قد تجاوزنا منطقة الخطر الشديد واصبحنا بعيدين عن انظار القوات الحكومية وخارج مدى الرمي بالبندقية .. وبينما كنا ننحدر الى الوادي الذي خلف هرماشي تفاجانا بوابل من الرصاص ينهال فوق رؤوسنا وامام اقدامنا ومن حولنا وفي كل مكان .. فانتشرنا على جانبي الطريق نختبيء خلف الشجيرات والاحجار من الجهة الشمالية المعاكسة للقرية ظنا منا ان هناك قوات حكومية في قرية هرماشي وان الرمي ياتينا منها .. واستمر الرمي بشكل عشوائي لفترة ومع بكاء الاطفال وصياح النساء بدا الرجال يصيحون وينادون باللغة الكردية باننا اهالي ازخ .. واننا عوائل .. ونحن غير مسلحين .. الى ان توقف الرمي بعد حين .. وتفاجانا ببعض الرجال من الجهة الثانية للوادي ( من الجهة الشرقية ) ينادوننا ويطلبون منا النزول الى الوادي .. ثم جاءوا الى عندنا وكانوا مجموعة من الاكراد المسلحين .. وبعد السؤال والتحقيق مع الرجال , تاكدوا باننا اهالي ازخ , وادعوا انهم ظنوا باننا قوات حكومية ولهذا اطلقوا علينا النار .. ثم سالوا ان كان احدا قد اصيب او جرح ( وكان لحسن الحظ الجميع بخير ولم يصب احدا باذى ) .. وسالوا ايضا عن سبب تركنا للمنطقة والى اين نحن ذاهبون .. وهنا اندفع بعض الشباب وقالوا باننا ذاهبون الى مريبة .. فلم يعلقوا على ذلك .. وشكروا الله على سلامة الجميع وتركون نمضي في طريقنا ..
وهكذا مشينا وقد زال الخوف عن الجميع وخاصة بعد ان خرجنا من هذه المصيبة والجميع بسلام ولم يصب احدا باذى وكان ذلك باعجوبة فعلا , حيث اننا عندما كنا نختبيء خلف الشجيرات والاحجار من الجهة الشمالية المعاكسة للقرية, كنا بذلك نقف باتجاه اوامام مصدر الرمي وخاصة ان المسافة كانت قريبة جدا ولم يكن يفصلنا عنهم سوى الوادي ..
وبعد ان سرنا لفترة قصيرة وقطعنا مسافة ليست ببعيدة حيث كنا ما زلنا في اراضي هرماشي , لاحظنا ثلاثة رجال مسرعين خلفنا .. وعندما وصلوا الى عندنا عرفنا انهم من المجموعة المسلحة التي اطلقوا النار علينا , وقالوا بانهم في مهمة مستعجلة ويجب ان يوصلوا خبر هام الى مسؤولهم الذي مقره في قرية بلان التي امامنا , ويحتاجون الى فانوس لاتمام هذه المهمة بسرعة , وقالوا بانهم سيعيدون الفانوس لنا عندما نصل الى قرية بلان حيث سينتظروننا هناك عند مفرق الطريق امام القرية .. فتم اعطائهم احد الفوانيس ومضوا مسرعين .. ومضينا نحن ايضا , ولم يفكر احدا بغير ذلك ..
وبعد ان تخلصنا من هذا المازق وابتعدنا عن خطر القوات الحكومية , بدانا نسير على ضوء الفوانيس ونحن مطمئنين بعض الشيء الى ان وصلنا الى امام قرية بلان وكان الليل قد اقترب من منتصفه , فوجدنا فعلا الاشخاص الثلاثة ينتظروننا عند مفرق الطريق ومعهم الفانوس .. وعندما وصلنا الى عندهم عرفنا بانهم لم ياتوا لاعادة الفانوس لنا وانما ليبلغوننا بامر منعنا من الذهاب الى مريبة بحسب امر من مسؤولهم المحلي .. وبعد كلام وكلام واخذ وعطاء معهم وتوسل بعض النسوة بهم والرجال يحاولون ان يوضحوا لهم باننا لا نستطيع العودة الى القرية ولا البقاء فيها لخطورة الموقف , واننا قد اصبحنا في موقف صعب , وغير ذلك من الحجج .. قالوا ان الامر ليس بيدهم ويجب ان يحصلوا على موافقة القائد العام لمنطقة باهدينان ومقره في منطقة شكفتي التي تبعد مسار بضع ساعات الى الشمال .. واقترحوا علينا ان نمكث تلك الليلة في بلان , لكي يذهب بعض الرجال في اليوم التالي الى شكفتي لاستحصال الموافقة المطلوبة .. ولم يجد معهم اي كلام اخر لتغيير موقفهم هذا والسماح لنا لاكمال رحلتنا الى مريبة بالرغم من محاولة والحاح الجميع , الا انهم اصروا على ذلك ..
وهكذا قادونا الى كهف بجانب القرية يعيش فيه بعض عوائل الاكراد الرعاة ( الكوجر ) , وهو كهف كبير وطويل ويمتد الى عمق الجبل .. وبقينا جميعنا تلك الليلة في ذلك الكهف .. وفي الصباح قام بعض الرجال مبكرين وذهبوا الى شكفتي لمقابلة القائد العام لاستحصال الموافقة المطلوبة .. ولكنه لم تحصل المقابلة , وفي اليوم الثاني ذهبوا مرة اخرى ولم يحصلوا على نتيجة ايضا , وفي اليوم الثالث تكرر الشيء نفسه وهكذا في اليوم الرابع والخامس والاسبوع القادم وما قدم من ايام ونحن في ذلك الكهف نحسب الايام والساعات في وضع يرثى له على امل ان نحصل على الموافقة .. وهكذا امضينا الشتاء كله بامطاره وثلوجه ولم تحصل الموافقة المطلوبة لكي يسمحوا لنا بالهجرة الى مريبة ..
وبعد ان يئس الاهالي من ذلك فكروا بنقل اطفالهم الى مريبة سرا وتدريجيا , حيث كان الطريق الى مريبة سالكا في الليل وبشكل شبه سري لغرض التسوق وشراء الحاجيات الضرورية .. وهكذا بدات كل عائلة ترسل احد اولادها عندما يذهب الرجال الى مريبة ليلا لغرض التسوق , ويبقون الاطفال هناك عند اقربائهم ومعارفهم من اهل هرماشي الذين سبقوهم الى هناك ويعودون لوحدهم ليكرروا العملية بعد مدة وبقدر ما تسمح الظروف بذلك ومن دون ان يعرف احدا بذلك ويفضح امرهم لكي لا يتعرضوا الى المحاسبة .. وهكذا تم نقل معظم الاطفال والعوائل الى مريبة بحلول الصيف , ولم يبقى في الكهف الا الرجال وكبار السن .. وفي هذه الاثناء قصف الكهف فعلا بالطائرات , ولم يصب احدا باذى حيث انحسر من بقي هناك في جوف الكهف العميق ..
وفي مريبة هناك من بقي فيها , وهناك من انتقل الى اماكن اخرى مثل القوش والشيخان وغيرها .. وفيما يخص عائلتي فقد بقي الكبار في ذلك الكهف في بلان واما نحن الذين وصلنا الى مريبة فقد اخذتنا والدتي الى القوش حيث بيت خالي هناك , ومنها انتقلنا الى بغداد حيث كان لي عم يعيش هناك , وامضينا الصيف فيها , ثم رجعنا الى القوش مرة اخرى مع نهاية الصيف وبداية موسم المدارس وهناك تم تسجيلنا للذهاب الى المدرسة .. وهكذا اتيحت لنا فرصة التعلم والدراسة في القوش , وحصل هذا لجميع اولاد القرية الذين كانوا في سني واصغر مني سواء الذين بقوا في مريبة او انتقلوا الى اماكن اخرى حيث التحق اولادهم في المدارس , واتيحت لهم فرصة التعلم بعد ان خسرها اخوانهم الاكبر منهم ..
وبعد فترة هدات الاوضاع قليلا وتوقف القتال وحصل ما كان يسمى بالهدنة بين الحكومة والاكراد , واصبح بامكان الاهالي العودة الى القرية .. وكانوا قد تعودوا على ذلك حيث كان بعد كل فترة تازم الامور ونشوب الحركة وبدا القتال , يضطرون لترك بيوتهم وممتلكاتهم لتحرق وتسلب وتنهب , ثم تهدا الامور قليلا فيعودون اليها مجددا ويباشرون باعمار بيوتهم من جديد وزرع حقولهم والاعتناء ببساتينهم حيث انها مصدر رزقهم الوحيد ..
وهنا اختلفت الامور لبعض العوائل .. حيث هناك من فضل العودة الى القرية كليا وبذلك حرم اولاده من التعلم والدراسة .. وهناك من قرر عدم العودة الى القرية نهائيا وفضل حياة الهجرة والغربة بعيدا عن قريته ومسقط راسه واهله واصبح يعيش في اماكن اخرى وخاصة بغداد .. وهناك من اختار العودة الى القرية جزئيا وفي نفس الوقت ابقى اولاده حيث هم في المدارس , وبذلك عانى من تجزئة العائلة الى قسمين , فهناك من العائلة من يعيش في القرية وهم الكبار عادة ليعملوا فيها وهناك من يعيش في المدينة وهم الاولاد والاطفال الذين يذهبون الى المدارس , وهذا ما حمل العائلة اعباء اضافية لاعالة عائلتين في نفس الوقت وتوفير متطلبات الحياة في المدينة خلال فترة الدراسة في الشتاء وتوفير مستلزمات الدراسة وغيرها في الوقت الذي كانت فيه اعالة عائلة واحدة فقط في غاية الصعوبة .. وبذلك تحملوا كل هذه الاعباء الاضافية من اجل تعليم اولادهم وانقاذهم من الجهل والفقروالحرمان التي عانوا هم من مرارتها وتعاستها طوال حياتهم ..
وهكذا كانت هذه الهجرة بالرغم من كل هذه الماسات وكل هذه الصعوبات وكل تلك المعانات المريرة , الا انه كان فيها هذا الجانب الايجابي حيث اتيحت فرصة التعلم للكثير من ابناء اهل القرية .. فمنهم من تعلم ومنهم من استمر بالدراسة , فمنهم الان اطباء ومهندسين ومدرسين وخريجي كليات ومعاهد اخرى .. ولولا هذه الهجرة لفاتتهم هم ايضا الفرصة ولحرموا من التعلم والدراسة كما حرموا الذين من قبلهم ..
واخيرا نقول ليحفظ الله جميع العوائل ويبعدهم واطفالهم عن مثل هذه الماسات والصعوبات والمشقات , ليعيش اطفالهم بامان وطمانينة وسعادة .. وشكرا .
وحيد كوريال ياقو
مشيكن - اميركا
كانون اول 2006
|