Arabic keyboard |
#1
|
|||
|
|||
استشهاد مهندس المسيحية
استشهاد الرسول بولس
وخطر لنيرون، الأمبراطور الطاغية، أن يتمتع بحريق روما فأحرقها واتّهم المسيحيين بحرقها، وما كانت التُهمة الوحيدة التي ألصقت بهم، فلقد اتُّهموا بأكل اللحم البشري، إذ حُمِل قول السيد المسيح في العشاء السرّي: خذوا وكلوا هذا هو جسدي على وجهه الظاهر. وبعد إذ أصبح بولس طليقاً طفق يزور كنائس الشرق فبلغ كريت وساير الضفّة الأسيوية مروراً بطرواس وأفسس. حيثُ حضَّ ابنه الروحي تيموتاوس على الثبات والتبشير. ويمّم شطر مقدونيا حيث نزل ضيفاً على كاربوس. ويرجّح أنّه من هذا المكان بعث برسائله الرعوية إلى تيموتاوس. وبرغم ما انطوت عليه من النصح والحكمة، فقد بدا عليها شحوب الشيخوخة. فلقد اخنى على الرسول الهمّ والعمر، وإن لم يكن قد نيّف على السادسة والستين بعد. ولقد فارق إنشاؤه الحرارة ووجوه التعبير، واختلاف الأسلوب باختلاف البيئة والظرف. ولا شكّ أنّ رسالته الأخيرة صدرت منه وهو في السجن، حيثُ عومل بولس معاملة المجرمين كما سيأتي عليه الكلام في حينه. وشتَّان ما بين حبسه الأول وحبسه الأخير، فالرسائل التي صدرت في الدفعة الأولى يطلُّ منها الرسول اللاهوتي الملهم، المتصوّف العظيم، العميق التأمل بسرّ الفداء. أما في هذه الأخيرة فَيَبرُز وجَه المِدرة الذي أحكمته التجارب. ولقد كان تيموتاوس، منذ شبابه الأول خجولاً، فكان في حاجة إلى التأييد، وهذا يأتيه من أحبّ الناس اليه، من أبيه الروحي. فبيّن له بولس كيف يجتذب الناس الى الإيمان بمحبته. وأوضح له المناهج في مخاطبة الناس ومعاملتهم شيوخاً وفتياناً ونساءً. وأوجب عليه أن يكون هو القدوة للشمامسة. ويبدو أنه كان قد وصل اليه من أمر الكهّان ما يُخجِل (مثل كثير من الكهنوت في ايامنا هذه)، فآثر بولس الكيف على الكم. ولقد ذهب المفكرون مذاهب شتى في مشكلة الشرّ، وأعجزهم التوفيق بين الله مصدر الخير والجودة والرحمة، وما يرون من شرٍّ مستطير في هذا العالم الفاسد، حيثُ ينعم الفسّاق واللصوص، ويبلغ سُدّة الحكم نيرون وأمثاله، وتنزل الكوارث بالخيّرين. ولقد تكسّرت على هذه العقبة أفهام الفهماء. وما برحت مشكلة الشرّ من أعقد القضايا الفلسفية، حتى لتستوي الصعوبة في حلّها وقضية الخلق من العدم، والخطيئة والنعمة. ووقف اللاهوتيون وأهل الكلام وقفة المدافع عن الله. أمّا بولس فوضع الإنسان في قفص الاتِّهام والمسيح في موقف المحامي عن الإنسان لأنه جاء مخلّصاً للخطأة جميعاً، ثم عدّ بولس نفسه بين هؤلاء الخطأة. وفي ربيع السنة السابعة والستين للميلاد عادت روما فاجتذبته كما يجتذب المصباح الفراشة، طامعاً في توطيد كنيستها. وطفق يبشّر في مخزن هناك على ضفّة التيبر، حيثُ يحتشد الفلاّحون والدبّاغون وأرباب الصناعات والحرف. فداهمه رجال الشرطة واقتادوه الى السجن زاعمين أنه رئيس بدعة. وطرحوه مقيّداً مع المجرمين. وكان السجن عهدئذٍ أشبه بمدافن الأحياء منه بحجز الحرية، لما يغمره من ظلام وما ينبعث من الروائح الكريهة في جوانبه. وكانت الأوبئة تذهب بحياة الكثير من السجناء، فلا يسلم منها إلا من أذن الله بتمادي عذابه. ومما زاد في وحشة الرسول خيانة بعض أصحابه وانزواء بعضهم الآخر عنه. وبقي لوقا وحده، ذلك الأمين الذي لا يتغيّر في الوفاء، عبّس الدهر لصاحبه أم ابتسم. ومثُل بولس للمحاكمة وحيداً، وأُرجئت الدعوى إلى أمَدٍ طويل، فاستوحش الأسير الذي بهظه الجهاد والهمّ والسنون فشاب على النضال، وارتعش في المحبس الرطب المظلم لشدة البرد، فكان يصرف لياليه مقسّماً بين الصلاة والذكريات. وكأنه شعر بدنوّ أجله، فحنّ إلى ابنه الروحي تيموتاوس، فكتب اليه رسالة هي أشبه شيء بوصية الميت حيث يقول: (... انا اناشدك اذاً امام الله والرب يسوع المسيح الذي يدين الأحياء والأموات عند ظهوره في ملكوته.. اكرِز بالكلمة اعكِف على ذلك في وقتٍ مناسب وغير مناسب، عِظ بكل اناةٍ وتعليم، لأنه سيكون وقتٌ لا يحتمِلون فيه التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة.... اما انتَ فاحتمل المشقّات أعمل عمل المبشّر، تمّم خدمتكَ........... أما أنا فقد أُرِفت سكيباً ووقت انحلالي قد حضر. لقد جاهدتُ الجهاد الحسن، اكملتُ السعي وحفظتُ الإيمان إنما يبقى لي إكليل البرّ المحفوظ لي، الذي يجزيني به الربّ الديان العادل..... إجتهد أن تقدم إليّ عاجلاً، فإن ديماس قد تركني لحبه الدهر الحاضر، وانطلقَ إلى تسالونيكي وكريسكيس إلى غلاطية وتيطس إلى دلماطية، ومعي لوقا وحده، فاستصحب مرقس وأقدم به عليّ فإنه ينفعني للخدمة..... أحضر معك الرداء الذي تركتهُ في طرواس، وكذلك الكُتب ولا سيما الرقوق....... ) وفي دعوته لمرقس تلفّتَ، ولا شك إلى ثلث قرن مضى، فرأى صديقه ورفيق جهاده الأول برنابا وما كان بينهما بسبب الفتى مرقس. ها هوذا الفتى قد اكتهل، وبولس قد شاخ، ذلك هو الأصيل بل الغروب المُداني الذي يُذكّر بالصباح.. بلى لقد عاد بولس بالذكرى إلى يوم رُجِم وانتشله برنابا وتيموتاوس وأهله من الموت، وكانت عينا الفتى الدامعتين تحدّقان إليه. فما نسي الرسول تلك السلالة الطيبة المباركة، فما أعجب السلالات النبيلة تتوارث الفضل كابراً عن كابر، كما تتوارث السلالات المجرمة رذائلهاوشرورها. ولقد أنهى بولس رسالته الأخيرة بالسلام وفاءً لصحبه المخلصين. واقتيد الرسول الى مجلس الحكم، فتبوّأ الباطل كرسي الحكم، وقُيِّد الحق في قفص الاتِّهام. وكان الرسول قد واجه الموت مرّات عديدة، وكان الفارق الوحيد بين الامس واليوم أن الروح ستنفصل عن الجسد، فلا الجزع أذهله، ولا تصلّب الرواقيين حمله على ازدراء الحياة. فهو إن ابتسم للمنيّة فلأنه اتحد بالمسيح، فكم من موقف جهر به بأن لا جوع ولا برد ولا اضطهاد ولا سيف يستطيع أن يفصله عن المسيح. وكان الحكم بالموت مبرماً في صدور الطغاة قبل ان تلفظه الشفاه. وباكره الجلاّدون في محبسه، وساقوه إلى ظاهر المدينة، وبتروا بالسيف تلك الحنجرة التي غرّدت ثلاثاً وثلاثين سنة على دوحة المسيح. وعلى منوال ذلك الناسج الخيام (لقد أظلّت خيامه الملايين من البشر) نسج علماء اللاهوت. وإنهم وإن جاوزوه في الإسهاب والتفسير، وتطوير الأمور عملاً بسنة الزمان، وتشعّب المذاهب، وتقدم الفكر، ورقيّ الفلسفة والعلم، فما برحوا يتشوّفون علمه الخافق إذا التبست عليهم المعالم، ويهتدون بنجمه إذا أغدق الليل وتاه الساري... وأخلد مظاهر بولس بساطته أي بعده عن التكلّف، فكل كبير بسيط. وليس في ميدان الجهاد من يعدل بولس فإنه لم يقتصر على التبشير بالإنجيل بل ذاب في المسيح ذوباناً لم يبزّه فيه أحد. وتُعد ملحمة بولس الرسول أعظم ملحمة عرفتها البشرية، تصغر حيالها الأوديسة والألياذة وجلجامش وووو.. ولا نكير أنّ شعراء الملاحم نفرٌ قد أوتوا من النبوغ قسطاً غير يسير، ونصيباً وافراً من خيال مجنّح وامتداد نفس، وشمول معرفة وكلف بالبطولات. وإنهم وإن عايشوا الوقائع فجرت في مُهجهم وأقلامهم، فما تعدّو أنّهم شعراء عبّروا عن الجمال وحدّثوا بمظاهر النفس البشرية في أحداث واقعية أو مبتدعة. ولكن لم يتأتّ لواحد منهم أن يخوض معركة تمادت ثلاث وثلاثين حولاً مُناضلاً بقلبه ولسانه، فقيراً يقتات بعرق جبينه، قليل رقاده، كثير سهاده، ألدّ أعدائه قومه، لا ينفكّ يقاتل في ميادين شتى، فينبري للفتح منفرداً، تتوالى عليه الأسقام ولا سلاح لديه يدكُّ به الوثنية، ويهدي اليهودية الضّالة إلى الإيمان والرجاء والمحبة. ولقد حمل من آلام السجن والجوع والحرمان ما يتجاوز طاقة البشر. وبعد فإن قرّاء الملاحم في مختلف العصور، لا يتجاوزون بضعة ملايين يطالعون تلك الأسفار إعجاباً بما حوت من أدب جمّ أو حبّاً في الاستطلاع، أو استكمالاً لثقافة. ولكن ملحمة ذلك الطرسوسيّ العظيم يتلوها في المعابد مئات الملايين من الناس، فتأتي في الصلاوات فرضاً لا نافلة. أجل ان بولس الرسول هو ركن المسيحية الأول بعد المسيح، فقد غرس دوحة ما برحت أغصانها تمتدّ إلى اقاصي الأرض، ولقد كانت يوم شهادته جذعاً لم يُشطئ بعد، وكان هو أحوج ما يكون إلى القيلولة في ظلّها. ولكنه استطاب لفح الهجير، يقيناً منه بأن من يعمل للأبدية لا يأبه للزمن وإن تمادى العمل. وأنه سيأتي يوم من الدهر تُؤتى فيه السرحة ثمارها فتشبع الجياع إلى الخير. نعم فقد سكب بولس الرسول الخير ثلاث وثلاثين سنة، وكانت شظاياه شرارات تُلهب الصدور بالإيمان والرجاء والمحبة. قضى بولس شهيداً وفتح أبواب الشهادة للألوف ومئات الألوف بعده، يلوجونها أبطالاً، دروعهم الإيمان، وتروسهم الرجاء، وسيوفهم المحبة. وليس في المحبين أشرف ممّن يفتدي حبيبه بدمه. (ليس حب أعظم من هذا،ان يضع أحد نفسه لأجل أحبائه) بذلك الخاتم الأحمر مَهَر الشهداء صك إيمانهم بالمسيح، وكان استيفانوس الذي رجمه اليهود فاتحة الصفحة الحمراء المجيدة، وتلتها صفحات فِيح تزداد سعتها بازدياد رسائل بولس، التي انتظمت آفاق آسيا الصغرى وتخطتها إلى الإغريق والرومان. فيا رسول الأمم الكبيرويا مهندس المسيحية العظيم: فهاأنذا أُشرّف فمي و قلمي وهذا الموقع بذكراك مصلّياً لا مادحاً، فيراعي أعجز من أن يوفّيك بعض حقك. فلئن كفاك الله مؤونة العائلة وتبعاتها الجسام، فغادرت الحياة الدنيا عزباً إلى الحياة التي لا تنقضي، فلقد اتخذت من الأمم كلها عائلة لك تقوم عليها قيام الأب الشفيق، فلم تدّخر في سبيلها غالياً. وهبتها الإيمان والرجاء وطريق الحياة فجادت عليك بالسيف، كما فعلت بمعلّمك فبعد أن منحها النعمة والخلاص والحياة الابدية، فجادت عليه بالصلب. انتهت بتاريخ: 09.05.2011 بقلم المهندس نعمان صومي... المانيا ... فيزبادن..
|
#2
|
||||
|
||||
فيا رسول الأمم الكبيرويا مهندس المسيحية العظيم: فهاأنذا أُشرّف فمي و قلمي وهذا الموقع بذكراك مصلّياً لا مادحاً، فيراعي أعجز من أن يوفّيك بعض حقك. فلئن كفاك الله مؤونة العائلة وتبعاتها الجسام، فغادرت الحياة الدنيا عزباً إلى الحياة التي لا تنقضي، فلقد اتخذت من الأمم كلها عائلة لك تقوم عليها قيام الأب الشفيق، فلم تدّخر في سبيلها غالياً. وهبتها الإيمان والرجاء وطريق الحياة فجادت عليك بالسيف، كما فعلت بمعلّمك فبعد أن منحها النعمة والخلاص والحياة الابدية، فجادت عليه بالصلب.
و ها أنا شخصيا أتقدّم إليك يا استاذ نعمان بأخلص مشاعر الشكر و المحبة على هذا الجهد الكبير الذي بذلته في تقديمك لنبذة عن حياة رسول الأمم بولس الذي كان الأساس في نشر و تثبي دعائم المعتقد المسيحي في العالم. لقد قرأت أفكارك بوضوح و وقفت على تأملات كثيرة و استخلاصات مفيدة لا يمكن المرور عليها هكذا دون تركيز و لا القفز من فوقها فهي جديرة بالقراءة و الثناء. الرب يبارك حياتك و حياة اسرتك و آمل أن تستمر في مدّ الموقع بما لديك من افكار و مواضيع و كتابات و مقترحات و أن تبقى على تواصل مشكورا يا غالي. |
#3
|
|||
|
|||
استاذنا الجليل فؤاد دُمت سالماً..
افرح جداً عندما تمر بتعليقاتك العذبة على ما نكتب.. في الحقيقة عندما بدأتُ بالكتابة عن حياة الرسول بولس، كان في نيّتي ان اضع امام القارئ الكريم شيئاً ليقارن بين رجال الكهنوت السرياني(الذين يركضون وراء الشهرة و المجد الباطل واموال شعبنا المسكين.. وبين رسالة هذا القديس الطرسوسي العظيم والتي هي نقيض ما يفعل رجال الكهنوت السرياني.. وارجوا ان اكون قد وُفقتُ بما كنتُ اصبوا اليه.. مشكور يا غالي ثانية على مرورك.. وتصبح على وطن جميل يعيش المرء فيه بمحبة وكرامة وسلام.. |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|