Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الثقافي > المنبر الحر ومنبر الأقليات

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-07-2014, 01:36 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,567
افتراضي الاغتيال السياسي في الإسلام هادي العلوي

الاغتيال السياسي في الإسلام
هادي العلوي
2006-05-01
الفصل الأول
الحكم الشرعي وتجارب العهد النبوي
أورد الفخر الرازي في تفسير الآية 38 من سورة الحج من «تفسيره الكبير» {إن الله يدافع عن الذين آمنوا. إن الله لا يحب كل خوّان كفور..}. إن مسلمي مكة استأذنوا النبي على قتل المشركين الذين آذوهم، سراً، فنهاهم ونزلت الآية لتؤكد هذا النهي.
وفي هذا المعنى يرد حديث أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد من سننه، نصه.. «الإيمان قيّد الفتك. لا يفتك مؤمن»..
وقد تردد هذا الحديث في أخبار مقتل الحسين، إذ يروي أبو الفرج الأصفهاني في «مقاتل الطالبيين»[1] أنّ مسلم بن عقيل استشهد به حين دافع عن عدم تنفيذه لخطة رسمها له قائد شيعي بالكوفة لاغتيال عبيد الله بن زياد. ويمكن قبول صحة الحديث في ضوء الآية الآنفة من سورة الحج، وهو يشكل بالتكامل مع الآية موقفاً شرعياً غير محبذ للاغتيال مهما تكن دوافعه. ويتجانس هذا الاتجاه مع قيم الفروسية الجاهلية التي تتمسك بالقتال وجهاً لوجه ولا تقر مع ملاحقة الهارب. والفارس الجاهلي إذا صادف خصماً له خاطبه بالعبارة الشائعة: «خذ حذرك إني قاتلك» قبل أن يهاجمه.
ولعل الموقف الإسلامي لا يتعدى هذا المنحى الجاهلي بقدر ما يكون قاعدة أخلاقية متعارف عليها. لكن هذا ليس هو السبب الأرأس في النهي عن اغتيال المشركين بمكة، فهذا النهي يأتي في سياق استراتيجية النبي محمد في الطور المكي. وكانت الدعوة الإسلامية حينذاك مقتصرة على التبشير وإمكاناتها لا تسمح باستعمال السلاح، كما أنها لم تكن قد امتلكت بعد مستقراً تتحرك منه لمزاولة هذا الشكل من الصراع. وفي الظروف الصعبة التي كانت عليها الدعوة آنذاك، كان مقتل أي شخص من المشركين يكفي لإعطاء مبرر لشن حملة إبادة ناجحة ضد تلك الفئة القليلة من مسلمي مكة. وفيما يتعلق بسلوك مسلم بن عقيل فهو ـ إذا صحت الرواية ـ لا يعبر عن التزام جدي بالحديث بقدر ما كان تبريراً لتردد مسلم، المعروف أنه لم يكن على قدّ المهمة التي كلفه بها ابن عمه حين أوفده إلى العراق.
وفي وسعنا الافتراض أن النهي عن الاغتيال كما يتحدد في الموقف الشرعي الإسلامي موجه لمحيط العلاقات الفردية، و«نافذ» ضمن الوضع الاعتيادي لمجتمع لم يتأزم فيه التناحر ـ حيث تأخذ مكانها في ضبط سلوك الأفراد قوانين الدولة أو مبادئ الشريعة، وتخضع حالات الصراع اليومي لاختصاص السلطة القضائية، وهو اختصاص لا يشمل أطراف الصراع السياسي والاجتماعي في ظروف التحولات التاريخية القائمة على العمل المسلح.
ويستفاد من دراسة السيرة النبوية أن فضلاً كثيراً من النجاحات التي أحرزها محمد يرجع إلى مرونته في اختيار الوسائل وقدرته على التصرف خارج منظومة المحرمات التي تشكلت منها شريعته. ولا شك أن منشئ تاريخ من طراز محمد لا يعجز عن التفريق بين إقدام فردي ينتهك مبادئ داخلية تقوم عليها البنية الأخلاقية لمجتمع ما، وبين تكتيك حركة ينفذ بالسلام منطلقاً من أرضية سيا ـ تاريخية أشمل وأبعد مدى.
تضمنت مصادر السيرة والتاريخ العام ثماني وقائع اغتيال ناجحة ومحاولة واحدة فاشلة حدثت جميعها إلا واحدة في المرحلة السابقة للحديبية. وهذه المرحلة اتسمت بالنمو البطيء للقدرة السياسية والعسكرية للإسلام الناشئ، وكانت فيها المدينة، معقله الأوحد حينذاك، عرضة باستمرار للاجتياح. وقد استعمل تكتيك الاغتيال السياسي في ذلك الوقت ليوفر، أحياناً، تعويضاً نوعياً عن الافتقار إلى قوة عسكرية ضاربة وليساعد أحياناً أخرى على ردع العناصر المناوئة داخل يثرب في وقت كانت سلطة الإسلام لم تترسخ بعد حتى في معقله الوحيد هذا.
سأتناول هذه الوقائع حسب تسلسلها التزميني جهد الإمكان. وأجد لزاماً علي الاعتراف، قبل الشروع، أني زاولت وأنا أقدم على هذه الدراسة قدراً من الرياضة الروحية أردت منها تطهير الذات، في آن واحد، من الرعب السلفي المقدس ومن مقابله الاستشراقي اللدود، اللذين تطوعا، كلاً في مضماره الخاص به، لتغييب تاريخنا في مستبقاتهما المنمطة، وإني بالتالي ورغم حساسية الموضوع لا أجد نفسي مضطراً لمراعاة الأذواق ـ السائد منها والمستجد ـ لا سيما وقد اخترت التعامل مع مصادر تاريخنا دون وسائط.
اغتيال زعماء يهود
كانت في يثرب كما هو معلوم تجمعات يهودية تعيش غالباً في حصون بعيدة عن مركز المدينة، وكانوا خليطاً من مهاجرين وسكان أصليين (عرب) وقبائلهم الرئيسية هي بنو النضير وبنو القينقاع وبنو قريظة، إلى جانب يهود خيبر خارج يثرب على طريق الشام، وكان محمد قد سعى أول هجرته إلى التحالف معهم ضد مشركي مكة على أساس العقائد المشتركة للديانتين. لكنه أخفق، لأنهم توقعوا أن انتشار الإسلام سيضعف موقعهم في جزيرة العرب. وقد لعبوا في المدينة دور الرتل الخامس المؤيد لقريش ضد الإسلام، فكان على محمد أن يسعى لإضعاف تأثيرهم عليه. و كانت وسيلته المبكرة إلى ذلك هي الاغتيال، الذي وجه للتخلص من عناصر مؤثرة بينهم. وقد نفذت ضدهم خمس خطط اغتيال نستعرضها فيما يلي:
كعب بن الأشرف:
زعيم يهودي بارز والده من قبيلة طيء وأمه من بني النضير وكان حليفاً لبني قريظة أقوى عشائر يثرب اليهودية. نشط ضد محمد منذ أول الهجرة وكان من حلقات الاتصال الأساسية بين اليهود وقريش. وبعد معركة بدر ذهب إلى مكة ليحرض قريش على الثأر لقتلاها في تلك المعركة. وكان يقرض الشعر فنظم قصائد يعرّض فيها بنساء الصحابة وأنشد في مكة قصيدة في رثاء قتلى بدر من أهل مكة. وتقول مصادر السيرة إن ذلك مما غاظ النبي كثيراً. لكن خطره في الحقيقة لا يتمثل في هذا الجانب، لا سيما وأن شعره، بحسب الأمثلة التي أوردتها هذه المصادر، لم يكن في مستوى شعر الفحول الذين يُخشى من جاذبيتهم، وإنما يكمن في موقعه القيادي بين يهود يثرب ونشاطه التآمري الواسع.
للخلاص من عنصر خطر كهذا تقرر اغتياله. وقدر وردت تفاصيل العملية في روايات مختلفة يغلب عليها الاضطراب والابتسار، وأقدم هنا خلاصة موحدة بالمحتويات الرئيسية المقبولة عندي، لهذه الروايات.
اختار النبي صحابياً يدعى محمد بن مسلمة عرف بخبرته في حبك المكايد ـ اعتمده عمر بن الخطاب فيما بعد للتجسس على الولاة ـ وأمره بالتشاور مع زعيم الأوس سعد بن معاذ. وكان الأوس حلفاء بني قريظة في الجاهلية، فهم يعرفون بعضهم جيداً كما توطدت بينهم علاقات شخصية استمرت بعد الإسلام. وتقول المصادر إن محمد بن مسلمة اختار لتنفيذ المهمة نفراً من الأوس، وهو نفسه أوسي، بينهم رجل يكنى أبو نائلة كان هو وابن مسلمة رضيعين لكعب بن الأشرف. تمت الخطة على مرحلتين؛ ذهب أولاً محمد بن مسلمة أو أبو نائلة ـ بحسب اختلاف الروايات ـ إلى كعب وقال له إن هذا الرجل، يعني محمد، قد طلب منها صدقة وإنه قد عنّانا وإني قد أتيتك استسلفك. ورأى كعب في هذا الكلام من رضيعه مصداقاً لتحذيراته لهم من محمد فعقب عليه: وأيضاً، والله لتملنه. فقال صاحبه: إنّا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين. فوافق كعب أن يسلفهم لقاء رهن. واتفقوا على موعد.
ورجع ابن مسلمة ـ أو أبو نائلة ـ إلى جماعته فأخبرهم. وتوجهت المجموعة لموعدها ومعها النبي محمد يسايرها حتى البقيع ـ من ضواحي المدينة ـ حيث بقي في انتظارهم. ولما بلغوا قلعة كعب ناداه ابن مسلمة أو أبو نائلة فنزل إليه فعرفه على جماعته، وتمشوا خارج القلعة للتحدث في الشأن الذي تواعدوا عليه. ولم يطل بهم المسير حين مد ابن مسلمة أو صاحبه يده إلى رأس كعب، ثم سحبها ليشمها وهو يقول مداعباً إياه: ما أطيب عطرك. وكان كعب حديث عهد بالزواج من امرأة عرفت بكثرة التعطر. وبعد قليل أعاد المذكور هذه الحركة معبراً مرة أخرى عن إعجابه بعبيره، ثم رجاه أن يسمح لأصحابه أن يشموه ليتمتعوا معه بهذه الرائحة النادرة... وكانت هذه إشارة متفق عليها فتقدم أفراد المجموعة من كعب بوضعية من يريد أن يتشمم شعره المطيب واهووا عليه بسيوفهم فقتلوه ثم قطعوا رأسه. وقد تمت هذه العملية بسرعة خاطفة لأنها نفذت في أراضي اليهود الذين انتبهوا على صرخة كعب لحظة ضربه فأشعلوا نيرانهم فوق أسوار القلاع. وعاد المنفذون إلى البقيع ومعهم رأس كعب ووضعوه بين يدي النبي برهاناً على نجاح المهمة.
اغتيل كعب بن الأشرف في الشهر الثالث من السنة الثانية للهجرة، بعيد معركة بدر. وقد اشتملت عملية اغتياله على تكتيكات وأهداف نجملها فيما يلي:
1 ـ اختيار شخصين قريبين إلى المراد اغتياله لتسهيل استدراجه إلى الفخ. وكانا أخويه في الرضاعة.
2 ـ إيكال المهمة إلى رجال من الأوس وهم كما قلنا حلفاء بني قريظة. ويهدف هذا التكتيك إلى منع ردود الفعل المحتملة إزاء مقتله في أوساط الأوس.
3 ـ التظاهر أمام كعب بمعارضة النبي والاستياء منه، استغلالاً لوجود معارضة فعلية في يثرب سواء من المنافقين أو الناس الآخرين الذين لم يكونوا مرتاحين لما تعرضت له مدينتهم من مشاكل بعد هجرة النبي إليها، ويدخل ذلك في تكتيك الاندساس الهادف للإيقاع بالعدو.
4 ـ جعل العملية في الليل لتسهيل الانسحاب بعد القيام بها.
أما الأهداف التي وفرها الاغتيال فهي:
1 ـ التخلص من متآمر خطر على حركة ناشئة.
2 ـ إرعاب المناوئين للتخفيف من اندفاعهم ضد الحركة، لاسيما وأن نجاح الاغتيال قد بيّن لهم أن الحركة تمتلك أدوات ووسائل كافية للردع. كما أثبتت لهم جدية محمد في المجابهة.
3 ـ إن هذا العمل قد بيّن ليهود المدينة أن محمد ليس هدفاً سهل المنال كالمسيح، ولعله قد أزال ما قد يكون تبقى بعد معركة بدر من أوهام بهذا الخصوص.
استنتاج فقهي خاطئ
قال السهيلي في «الروض الأنف» الذي شرح فيه سيرة ابن هشام، إن الفقهاء ـ عدا أبو حنيفة ـ رتبوا على قتل كعب بن الأشراف حكماً بوجوب قتل من سب النبي وإن كان ذا عهد[2]. والحكم مبني على أن كعب قتل لأنه كان يهجو النبي. وقولهم «ذا عهد» يشير إلى ارتباط يهود المدينة في ذاك الوقت بميثاق يثرب الذي حاول النبي محمد أن يجعله إطاراً للتحالف معهم. وقد أكسبهم هذا الميثاق صفة أهل الذمة. وهذا من الأقيسة السطحية القائمة على مناط شكلي، إذ لم يدخل هؤلاء الفقهاء في اعتبارهم أركان الحدث من جهة ارتهانه بحالة حرب وكون المقتول من قادة العدو المحارب وكونه بالتالي إجراءً سياسياً عسكرياً لا يصلح أن يكون سابقة لحكم قضائي. وكم من الفرق بين هذه الحالة وحالة إنسان عادي يشتم النبي لغواً أو مهاترة. ولعل معارضة أو حنيفة لهذا الحكم وعدم إجازته قتل من سب النبي مسلماً أو ذمياً هي نتاج هذا التفريق بين الحالتين. وأبو حنيفة معروف بدقة أحكامها وسعة أفقه في الاجتهاد.
سلاّم بن أبي الحُقيّق:
كان من زعماء بني النضير والتحق بعد إجلائهم بخيبر ليستمر في مناهضة المسلمين من هناك. وهو من المحرّضين الكبار الذين عملوا على دفع قريش لشن هجومها الأخير على المدينة حيث وقعت معركة الخندق. وكان قد ذهب في وفد يهودي إلى مكة لهذا الغرض. وبعد عودته وضعت خطة لتصفيته. ومصادر السيرة تفيد أن البادرة جاءت من الخزرج وأنها كانت بدافع المنافسة مع الأوس، خصومهم القدماء الذين حصلوا على شرف اغتيال كعب ابن الأشرف، لكن الفكرة لم تكن، مع صحة هذه المصادر، لتغيب عن النبي الذي سبق أتباعه إلى إدراك الفوائد المترتبة على مثل هذه العمليات، وقد اختار لهذه المهمة مجموعة من رجال الخزرج وأمرهم بالتوجه إلى خيبر. وفيما يلي تفاصيل العملية:
كان على المجموعة أن تدخل حصن خيبر ليلاً، حسب الخطة فتقدم أحدهم ويدعى عبد الله بن عتيك أو ابن عقبة من بوابة الحصن، وتظاهر بأنه يقضي حاجته خارج السور، فصاح عليه البواب: إن كنت تريد أن تدخل فادخل أريد أن أغلق الباب. فدخل وكمن في معلف حمار قريباً من المدخل. وبعد أن دخل أهل الحصن في وقتهم المحدد دخل البواب وأغلق الباب. وانتظر عبد الله في مكمنه حتى أقفر المدخل من الناس فقام وأخذ المفاتيح، وكان قد رأى أين علقها البواب، وفتح البوابة. وكانت المجموعة تنتظر خارج الحصن فدخلوا. وكان الغسق قد حل، فتوجهوا إلى دار ابن أبي الحقيقي فدخلوها. وكانت الدار أشبه بمجمعة تحتوي على عدة بيوت. ولم تصف الرواية كيف استطاعوا دخولها لكنها تذكر أنهم أغلقوا أبواب البيوت على أهلها من برة. ثم اقتحموا المنزل الذي يقيم فيه ابن أبي الحقيق. والرواية هنا مبتسرة لا توضح كيف اقتحموا المنزل. وعلى أي حال فقد وصلوا إليه فوجدوه مع زوجته على فراشهما. وكان البيت مظلماً ولكي يميزوه عن زوجته نادى عليه أحدهم فأجابه فزعاً: من أنت، فهجم باتجاه الصوت وضرب ضربة عشوائية بالسيف لم تصبه. ونهضت امرأته في وجوههم فارتبكوا؛ لأن النبي أوصاهم أن لا يتسببوا في قتل امرأة أو طفل. غير أنهم استطاعوا أخيراً دفعها عنه وتناولوه بأسيافهم فأجهزوا عليه. وفي هذه الأثناء خرج أهل الحصن من بيوتهم على صراخ المرأة، فاختفى المنفذون في إحدى زوايا الحصن، فلم يعثر لهم على أثر لشدة الظلام. وعاد اليهود بعد أن يئسوا من العثور عليهم إلى زعيمهم فوجوده قد مات، فانشغلوا به، وانتهزت المجموعة هذه الفرصة فتسللوا من الحصن.
إن اغتيال سلام بن أبي الحقيق يندمج في اغتيال كعب بن الأشراف ويحقق نفس الأهداف بالنظر للدور والمركز المتماثلين لكلا الزعيمين.
ابن سنينة:
هكذا ورد الاسم في المصادر. وكان من يهود بني حارثة. ولم تذكر له الرواية دوراً يتعدى هجاء النبي والمسلمين بالشعر. تولى اغتياله بأمر النبي شخص يدعى محيصة بن مسعود. وكان المقتول حليفاً لشقيق القاتل وهو حويصة بن مسعود. وقد اغتاله بحضور شقيقه دون علم مسبق منه. وكان حويصة مشركاً متنفذاً وقد اختار النبي أخاه محيصة لهذه المهمة وهو مسلم، بخلاف أخيه، لتفادي مشكلات الثأر.
اغتيل ابن سنينة بعد اغتيال كعب بن الأشرف. ويؤخذ من الرواية التي تناولت الحدث أنه جاء في سياق التخويف لغيره لأن اليهود جاءوا بعد مقتله إلى محمد يشكون ما حدث فأجابهم: «إنه لو قر كما قد قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل. ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر». وكلام النبي هنا واضح فقد اغتيل الرجل لأنه نشاط في المناهضة ولو سكت كما سكت غيره محتفظاً بوجهة نظره لسلم.
اغتيال امرأة:
ورد هذا الحديث في روايتين مختلفتين كثيراً، إحداهما في مصادر الحديث والأخرى في مصادر السيرة. رواية مصادر الحديث أخرجها النسائي وأبو داود في كتاب الحدود من سننها وملخصها أن أعمى كانت له أم ولد (جارية ـ زوجة) وله منها ابنان وكانت تكثر الوقيعة بالنبي وتسبه وهو ينهاها ويزجرها فلا تنتهي. وذات ليلة ذكرت النبي وأخذت بشتمه فتناول مغولاً (سيف قصير دقيق) فوضعه في بطنها ثم اتكأ عليه حتى قتلها. وجاء الأعمى إلى النبي وقال له: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت أو ولدي وكانت بي لطيفة رفيقة ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر. فلما كانت البارحة ذكرتك فوقعت فيك فقمت إلى المغول فوضعته في بطنها فاتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي «ألا اشهدوا أن دمها هدر» ولم تذكر الرواية اسمها.
رواية مصادر التاريخ تفيد أن المرأة هي عصماء بنت مروان وأنها كانت يهودية ولم تكن جارية بل زوجة رجل من بني خَطَمة كانت تحرض على الإسلام وتهجو النبي بالشعر. فنذر صحابي يدعى عُمير بن عدي الخطمي ـ من نفس عشيرة زوجها ـ أن يغتالها إذا رجع النبي سالماً من معركة بدر. فلما رجع جاءها ليلاًَ فدخل عليها وهي بين أولادها وكان أحدهم على صدرها ترضعه، وكانت عمير أعمى، فلتمسها فوجد الرضيع فنحاه عنها ووضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها. وعاد مع الصبح فصلى مع النبي. ولما انتهت الصلاة نظر إليه النبي وقال: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول الله فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير فقال: علي شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان. وقال لأصحابه: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي.
ويصعب الجزم بأي الروايتين أصح. ولو أنهما تشتركان في كون القاتل أعمى وفي أن المبادرة إلى الاغتيال جاءت منه ولم تكن أمراً من محمد، وأنه أقرها بعد أن تمت. وربما استنتجنا من قوله في الرواية الثانية: أقتلت ابنة مروان؟ أن هناك أمراً، ما لم يكن هذا القول إضافة من الرواة للتدليل على معرفة النبي بالغيب. ويمكن ترجيح وجود أمر إذا أخذنا بما أوردته الرواية الثانية من كون القاتل من عشيرة زوجها لأن فيه تفادياً لمشكلات الثأر. وفي الروايتين إشكالات عسيرة الحل إذ يمكننا الارتياب في صحة الثانية من الوصف المبسط للعملية الذي يبدو منه كأن المرأة كانت تمثالاً تجلس أمام الأعمى في صمت وهو يلتقط المغول ويزيح رضيعها من على صدرها ثم يغزر المغول فيها يتكئ عليها حتى تموت لكننا نجد هذا الأسلوب في السر شائعاً في معظم روايات مصادر الحديث والكثير من روايات مصادر التاريخ العام. وهو ابتسار يكرس طبيعة النقل الشفوي للأخبار قبل مرحلة التدوين. ويتعذر علينا كذلك أن نعرف الصفة الحقيقية للمرأة، وهل كانت زوجة أم جارية؟ وهي هي يهودية؟ وما هو رد فعل زوجها إذا كان القاتل غيره؟ وماذا يدل عليه كون القاتل أعمى في الروايتين؟ يضاف إلى ذلك تعارض هذا الفعل مع التشديد في النهي عن قتل النساء. وقد رأينا كيف كادت خطة اغتيال ابن أبي الحقيق تفشل بسبب زوجته لأن المكلفين بذلك تحاشوا المساس بها التزاماً بوصية نبيهم. إننا مضطرون أمام هذه الإشكالات إلى التوقف بشأن الروايتين وعدم الجزم إن كان مثل هذا الحدث قد وقع فعلاً ولو أن ورود الروايتين في مصادر متعددة مختلفة الاختصاصات ـ حديث، سيرة، تاريخ عام، تراجم، وأموال ـ يمنع من التشكيك الاعتباطي فيهما.
أبو عفك:
يهودي من بني عمرو بن عوف، كان يحرض على محمد شأنه شأن غيره من كبراء اليهود في يثرب، ولجأ في ذلك إلى الشعر. وتقول الرواية إن صحابياً يدعى سالم بن عمير الأنصاري عزم على اغتياله وأنه دبر الخطة بنفسه. وقد بقي يترصده حتى جاء الصيف حيث ينام الناس في الأفنية. وفي إحدى الليالي كان أبو عفك ينام في منازل عشيرته فتسلل إليه سالم وقتله بالمغول. وكان قد ناهز المئة والعشرين. وبالطبع، فقد أقر النبي هذه العملية.
وكان اغتياله بين معركة بدر وأحد، وهي المدة التي اغتيل فيها أقرانه اليهود عدا ابن أبي الحقيق الذي اغتيل بعد معركة أحد.
توقفت الاغتيالات الموجهة ضد الشخصيات اليهودي بعد فتح خيبر الذي أعقب معركة الخندق، آخر معارك الإسلام ضد أهل مكة. وبفتح خيبر كانت المعارضة اليهودية قد صفيت حيث سبقه أجلاء بني القينقاع والنضير وإبادة بني قريظة وأصبح الخيبريون رعايا لمحمد بموجب عقد الذمة الذي أعقب اجتياح معقلهم الأخير.
اغتيال زعيم قبيلة:
وقع هذا الحدث بين معركتي بدر وأحد. وقد رواه الطبري في أحداث السنة العاشرة للهجرة ضمن فصل عدد فيه سرايا النبي، أي الحملات التي كان يوجهها لأهداف موصوفة. يدعى هذا الرجل خالد بن سفيان وهو من هذيل. وكان قد قرر تجميع قوة عشيرته وغيرها لمهاجمة يثرب بعد معركة بدر. وقد يكون فعل ذلك بتحريض من قريش. ويبدو أن محمد وقف من طريق استخباراته على جدية هذا القرار. وقد نفذ المهمة صحابي يدعى عبد الله بن أنيس كان ضمن المجموعة التي اغتالت كعب بن الأشرف. وحسب رواية هذا الصحابي نفسه أن النبي دعاه وأبلغه أن خالد بن سفيان يجمع الناس ليغزو المدينة، وأمره أن يذهب إليه ليقتله. وتوجه إليه بعد أن عين له النبي أوصافه حتى يستطيع تشخيصه، إذ لم يكن قد رآه من قبل، ووصل قبل الأصيل فرآه يمشي مع نساء كان يبحث لهن عن منزل. ويظهر من الرواية أنه كان بعيداً عن الحي. فسلم عليه فرد علي السلام ثم سأله من الرجل؟ فقال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل ـ يعني محمد ـ فجاءك لذلك. فرد خالد، أجل أنا في ذلك. فتمشى معه قليلاً يحادثه في هذا الشأن فلما وجد منه غفلة عاجله بضربة من سيفه فأرداه. وعاد إلى نبيه ليخبره بإتمام المهمة فكافأه بعصاً لتكون وسيلة تعرّف بينهما يوم القيامة... وباغتيال خالد بن سفيان فشلت خطة الهجوم.
يلاحظ أن اغتيال هذا الزعيم تم بسهولة لأنه كان يتحرك على طريقة البدو، بلا حرس ولا أركان حرب. ولم يتطلب الأمر خطة معقدة كالتي اقتضاها اغتيال كعب بن الأشرف ـ التاجر المتحصن في قلعة. ويرجع تأثيره الحاسم في إفشال الهجوم إلى أنه كان قراراً منفرداً ومرتهناً بشخص القتيل، فانتهى بانتهائه. وكان محمد حين قرر اغتياله ملماً بهذه الحقائق جيداً لأنه كان يعتمد على جهاز رصد كفوء.
اغتيال زعيم قبيلة آخر:
في سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري أن زعيماً لقبائل قيس يدعى رفاعة بن قيس الجشمي كان يجمع قيساً لحرب رسول الله. فوجه إليه ثلاثة فدائيين ذكر منهم عبد الله بن أبي حَدْرَد فكمنوا له. ورماه ابن أبي حدرد بسهم فقتله وجاء برأسه إلى النبي.
أورد هذا الخبر أيضاً ابن حبيب في «أسماء المغتالين من الأشراف» ويختلف الرواة في اسم المغدور إذ يرد أحياناً باسم قيس ابن رفاعة.
ويمكن الشك في قطع رأسه لأنه يفترض وقتاً طويلاً للعملية مع انفراد المقتول عن أصحابه. مما يتعارض مع خطة العملية التي اعتمدت على كمين متحرك. كذلك يتعارض حمل الرأس مع حكم شرعي ينهى عنه لأنه من باب المثلة (التمثيل بالجثث) لكن ثمة حاجة قد تكون دعت إليه لإثبات نجاح العملية. وكما بينت فمؤسس الإسلام لم يتقيد بالأحكام الشرعية إذا تعارضت مع مخططاته.
أدى اغتيال زعيم قيس إلى فشل خطة الهجوم على المدينة.
اغتيال عَبْهَلة ـ الأسود العنسي:
كان عبهلة (أو عيهلة) من زعماء الردة وقد تحرك باليمن في أواخر حياة محمد وسيطر على معظم أنحائها وامتد نفوذه إلى أجزاء واسعة من الجزيرة تمتد حتى الخليج وكانت حركته من مستوى حركة مسيلمة (الكذاب) في اليمامة من حيث قوتها وخطورتها.
كان من المعتاد أن يعالج محمد مثل هذه التحركات بالمجابهة الحربية لا سيما بعد أن صار هو القوة الأولى في الجزيرة منذ صلح الحديبية. وهو السبب في أننا لا نجد عمليات اغتيال في هذه المرحلة. لكن طبيعة تحرك عبهلة فرضت على محمد مجابهة من طراز خاص تنطلق من خطة اغتيال تأتي في سياق عمل منظم وجه لسحق الحركة بقدر أقل من التكاليف. وكانت هذه الخطة من أعقد مخططات الاغتيال السياسي التي أوعز بها النبي محمد وأشدها إثارة. وفيما يلي تفاصيل العملية كما ورد في تواريخ الطبري وابن الأثير واليعقوبي وفتوح البلدان اللبلاذري (تراجع الأبواب التي تحدث عن حروب الردة في السنة الأولى من خلافة أبو بكر).
كان محمد قد أصدر بنفسه قرار الاغتيال وكلف به جماعة من أهل اليمن واستغرقت العملية وقتاً أطول من أي عملية سابقة بحيث لم تتم إلا والنبي على فراش الموت.
نهض بالمهمة إلى جانب الأشخاص الذين كلفهم محمد بأعيانهم، جماعة أخرى مؤثرة من أهل اليمن بينهم القائد العام لجيش عبهلة قيس بن عبد يغوث، الذي قدم تسهيلات بهذا الشأن بعد اختلافه مع نبيه، وقد تصدر التنفيذ زعماء «الأبناء» وهم من الفرس الذي استوطنوا اليمن بعد جلاء الأحباش عنها وكان لهم نفوذ سياسي كبير إلى جانب أقيالها. وكان هؤلاء قد ناهضوا حركة عبهلة وخاضوا ضده معركة خاسرة انتهت بقتل قائدهم المسمى «شهر» واستيلاء عبهلة على زوجته «آزاد». وتم التنسيق على المستوى الأبعد للخطة مع غير المرتدين من أهل صنعاء على أن يتحركوا إذا سمعوا الآذان من داخل قصر عبهلة.
كانت العقدة الأساسية في الخطة هي كيفية الوصول إلى عبهلة لأنه كان يقيم في قصر محصن ومحاط بحرس شداد لا يفارقونه ليلاًَ ولا نهاراً. وقد تولى حل العقدة آزاد، الزوجة المغصوبة التي عزمت على الثأر لزوجها. فدلت ابن عم لها يدعى فيروز كان من عناصر التنفيذ الرائسة، على مكان خلفي في القصر يكون وراء الحرس ويؤدي رأساً إلى غرفة نوم عبهلة. وفي ليلة متفق عليها مع آزاد جاء فيروز ومعه فارسيان آخران أحدهما يدعى داذويه والآخر قيس بن جَشيش الديلمي ونقبوا القصر من المكان الذي عينته آزاد. ودخلوا عليه والحرس لا يشعر لأنه كان يقف خارج الحجرة، وباغتوه بسيوفهم فأجهزوا عليه. وتقول الرواية إن الحرس سمعوا صوته لحظة ضرب فنادوا على آزاد فقالت لهم: النبي يوحى إليه.. وكان قد عرف عند العرب من الأخبار التي تحدث عن كيفية نزول الوحي على محمد ما يحدث له أثناءه من الرعدة والغيبوبة. وبقي الحرس في مكانهم خارج الغرفة والمجموعة مع آزاد في داخلها وعبهلة قتيل بينهم حتى الصباح. وكانوا قد رتبوا من يرفع الآذان من داخل القصر عند الصبح. وعلى صوت المؤذن تحرك مسلمو صنعاء وهجموا على القصر، وتحرك الحرس من جانبهم فخرجت إليهم المجموعة من غرفة عبهلة وألقت إليه برأسه مقطوعاً، فارتبكوا واختلت صفوفهم، مما سهل على المهاجمين احتلال القصر. وهرب جنود عبهلة إلى خارج صنعاء.
تشتمل عملية اغتيال الأسود العنسي على جملة عناصر ومدلولات تتميز بها عن سائر العمليات الماثلة في تاريخ السيرة نستخلصها فيما يلي:
1 ـ إنها كما قلنا في البدء ليست عملية اغتيال فردي بحت، لأنها جاءت كجزء، أساسي طبعاً، من خطة انقلابية لنسف الحركة من الداخل، وكما بينا فإن قادة العملية نظموا مسلمي صنعاء للهجوم على القصر عند سماع الآذان، الذي قام هنا بدور كلمة السر التي أعلنت ساعة الصفر، مع ما في رفع الآذان من قصر عبهلة من إرباك لأتباعه.
2 ـ إن اغتيال عبهلة قد حسم الوضع لصالح محمد. ولكن هذا لم يتم إلا بالارتباط مع المخطط الانقلابي في جملته. وقد أدى الاغتيال بدوره إلى نجاح الانقلاب بسرعة وبأقل كلفة ـ مما أغنى عن حروب طويلة كانت ستكلف ما كلفه القضاء على حركة مسيلمة من ثمن باهظ، لا سيما وأن عبهلة أثبت أنه يتمتع بقدرات كبيرة لعلها هي التي أطمعته أن يضع نفسه نداً لمحمد، شأن نظيره مسيلمة.
3 ـ وهنا لا بد من التنويه بأن مبادرة كالتي قام بها عبهلة كان يمكن أن تثمر لو توفر لها مقومان: أحدهما منهاج محدد، مقترن بإديولوجيا واضحة المعالم، كالذي كان لدى محمد. والثاني لو أنها ظهرت في أوانها. إذ من الواضح أن عبهلة جاء متأخراً، كما هو حال مسيلمة، بعد أن تهيأ لمحمد أن ينجز ما كانت المرحلة التاريخية في جزيرة العرب وعموم المنطقة تريد أن ينجز على يد نبي ما.
وفي ظرف كهذا تميل فيه عوامل النصر الموضوعة مع محمد، فإن تحركاً كبيراً كتحرك عبهلة بدا مع تنفيذ ذكي وجريء لخطة اغتيال أشبه بحدث عابر سرعان ما تلاشى على صوت المؤذن. ويؤدي الاغتيال هنا، ضمن ظروفه المادية وما ارتبط به من مخطط شامل، إلى نتائج بعيدة لا يؤديها الاغتيال الفردي.
4 ـ قامت بشوط كبير في إنجاح عملية الاغتيال زوجة عبهلة المغصوبة آزاد. والمسؤولية هنا تقع على عبهلة نفسه لأنه خاطر بالزواج من امرأة قتل زوجها. ولا بد أن جمال آزاد الفتاة الفارسية، قد أنساه مرتكسات مثل هذا التصرف. إن آزاد هي التي جعلت تنفيذ الخطة ممكناً، ولولاها لكانت شبه مستحيلة، مع الوضع الحصين الذي رتبه عبهلة لنفسه، ولكان على خليفة محمد أن يجهز جيشاًَ كالذي جهزه لحرب مسيلمة للقضاء على هذه الحركة.
من المفيد أن نذكر هنا أن حالة أزاد قد سبقتها حالة مماثلة لكنها لم تؤد إلى النتيجة نفسها. فقد سبق لمحمد أن أقدم على نفس المخاطرة حين تزوج من صفية بنت حُيي بن أخطب أحد زعماء خيبر. وكانت صفية متزوجة من زعيم يهودي من بني النضير هو كنانة بن الربيع، الذي التجأ إلى خيبر بعد إجلاء عشيرته عن يثرب. وقد قتل أبوها وزوجها في معركة فتح خيبر التي قادها علي ابن أبي طالب وأشرف عليها محمد بنفسه. وأسرت صفية فتزوجها محمد. وتنقل مصادر السيرة عن صفية أنها كانت تكره محمد أشد الكره، وهو أمر طبيعي، لكن المصادر تضيف أن قالت إن الله أدخل حبه في قبلها بعد ذلك. ومن المرجع أنها لم تكن صادقة في هذا القول. ويخبرنا «ابن سيد الناس» في سيرته المشهورة «عيون الأثر» أن تقريراً رفع إلى عمر بن الخطاب بأن أم المؤمنين صفية تحب السبت وتتصل باليهود سراً. فاستجوبها عمر فأنكرت حبها للسبت واعترفت باتصالها باليهود قائلة بأن لها أقرباء فيهم فهي تبرّهم. وقبل منها عمر وأغلق القضية. ولم يكن له بد من ذلك لأنها من «أمهات المؤمنين» فلا سبيل له عليها، فضلاً عن أن اليهود لم يعودوا في زمان عمر قوة يؤبه بها حتى يقلقه اتصال صفية بهم.
المهم في هذه الحالة أن صفية كان يمكن أن تلعب مع محمد نفس الدور الذي لعبته آزاد مع عبهلة لو أن محمد وقع في وضع مماثل. لكن الانتصارات الساحقة التي أحرزها مؤسس الإسلام منطلقاً من قاعدته التاريخية الراسخة قد نجته من عواقب هذا الزواج الخطر.
خطة فاشلة لاغتيال أبو سفيان:
بعد معركة بدر، التي قتل فيها نفر هام من زعماء قريش، تركزت قيادة أهل مكة في يد أبو سفيان، شيخ الأمويين. وكان أبو سفيان هو منظم وقائد حملتي أحد والخندق ووراء جميع النشاطات المعادية التي قام بها المكيون حتى فتح مكة، وكان من المنتظر لذلك أن يدرج في قائمة الاغتيالات. لكن الأمر لم يكن سهلاً، لسببين أولهما طول المسافة بين مكة ويثرب، وبالتالي عدم ضمان خط انسحاب لمجموعة تكلف بهذه المهمة، لا سيما وأن قريش كانت تسيطر على معظم الطريق بين المدينتين. الثاني، وهو الأهم، صعوبة توفير مكمن في مكة تتحرك منه المجموعة، لأنها كانت خالية من المسلمين.
لكن هذه الصعوبات لم تمنع محمد من المحاولة. وقد وردت تفاصيل ذلك في الطبري وابن الأثير ـ حوادث سنة 4 ـ وتقول الرواية إن النبي اختار لهذا الغرض «فاتكاً متشيطناً» يدعى عمرو ابن أمية الضمري، دخل في الإسلام بعد أن شارك مع قريش في معركتي بدر وأحد. ولعله كان بانتظار إسلام مغامر كهذا ليجرب حظه مع أبو سفيان. وقد بعث معه رجلاً من الأنصار. وخرج الرجلان إلى مكة فدخلاها في الليل، وهو الوقت الذي تمت فيه المهام الأخرى. وكان أهل مكة يرشون أفنيتهم في المساء ويجلسون فيها للسمر. وفي طريقهما إلى منزل أبو سفيان، مر عمرو وصاحبه بجماعة جالسين في فناء. فأبصروا عمر، وكان معروفاً لديهم لشهرته، فصرخوا: هذا عمرو بن أمية. فاهتاج أهل مكة وأدركوا أنه لم يأت إليهم إلا لغرض شرير. وكان عمرو يعرف دروب البلد فاستطاع الإفلات مع صاحبه في جنح الظلام. وعاد إلى المدينة وقد سلم أبو سفيان. ولم تتكرر المحاولة. ولا شك في أن محمد كان مدركاً لصعوبتها وهو عندما اختار فاتكاً كعمرو بن أمية الضمري قد فعل غاية ما في الإمكان، ولم يكن ميسوراً لغير هذا الرجل أن يوفق فيما فشل هو فيه. ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن شخصية عمرو بن أمية الضمري دخلت في الحكايات الشعبية التي تناولت بعض أحداث الفتوحات. وقد أخذت في هذه الحكايات نفس منحاها التاريخي. ولو أن عمرو في الحكايات الشعبية، خلافاً له في مصادر التاريخ، لا يمكن أن يفشل في مهمة!
تنتهي إلى هنا قصة الاغتيالات في العهد النبوي. وسوف نتناول في الفصل الثاني قصتها في خلافة الراشدين.. وقبل أن نترك هذا الفصل يلزمنا إيراد بعض الملاحظات الضرورية:
1 ـ إن محمد مارس هذا التكتيك كما قلنا في تعارض مع الحكم الشرعي الذي ثبته بنفسه. وهو بذلك يكرس تصوره الخاص للدائرة التي يمكن لهذا الحكم أن يتحقق فيه ـ حيث نجده يمارس الاغتيال في دائرة الصراع السياسي المسلح وبقدر ملموس من الذرائعية.
2 ـ إن الاغتيالات التي نفذت فقي عهد النبوة محدودة عددياً ومحصورة زمنياً.. وضمن هذه الحدود أعطى تكتيك الاغتيال نتائج ذات مفعول تاريخي بالنسبة لمسيرة الثورة المحمدية دون أن ينعكس ـ أو ـ يتحول ـ إلى نزعة إرهابية. وقد مر بنا أن محمد استخدم هذا التكتيك حين كان ضعيفاً، ولا يستثنى من ذلك إلا اغتيال عبهلة الذي كان جزءاً من مخطط انقلابي.
3 ـ إن الأطراف التي وجهت ضدها الاغتيالات هي أطراف معسكر العدو الذي كان يضم المشركين واليهود. ويرتبط اغتيال الشخصيات اليهودية الخمس أو الأربع بالأدوار الخطرة التي لعبتها الجماعات اليهودية في يثرب ضد محمد وهو في أحرج أوضاعه. وقد أعطته الاغتيالات ورقة رابحة رجحت كفته عليهم وحدّت من نشاطهم المناوئ. وهو لم يلجأ إلى هذه الوسيلة إلا بعد أن استنفد وسائل التحالف معهم، أو على الأقل منعهم من التحالف مع قريش ضده.
وكما بينت، فقد توقفت الاغتيالات ضد اليهود بعد صفية المعارضة اليهودية. وقد عاش اليهود في المدينة بعد ذلك من خلال عقد الذمة كرعايا لمحمد. وتحوي مصادر الحديث والفقه والتفسير على وقائع كثيرة، عولجت كسوابق فقهية. كان أشخاصها من يهود المدينة، منها رواية تقول إن النبي كان إذ وزع الخمس يقول: ابدأوا بجارنا اليهودي. وهي من الأخبار التي يستدل منها على جواز التصدق على غير المسلمين. وثمة قصة ظريفة عن حادث سرقة اتهم بها يهودي ثم برّئ. وفيها دلالة هامة على كيفية تعامل الإسلام الأول مع غير المسلمين. وقد اقترنت بها مجموعة من الآيات تميزت بنبرة بلاغية عالية ولغة انتقادية لاذعة ـ تراجع الآيات 105 ـ 112 من سورة النساء في مصادر التفسير.
4 ـ في محادثة مع فقيه شيعي قال لي إن استخدام وصف الاغتيال للعمليات التي جرت في العهد النبوي خطأ. وأورد على ذلك أن مقتل الأشخاص المذكورين جرى بناء على أمر شرعي. وقد أوردت عليه ما أنا متمسك به وهو أن محمد لم يكن حين جرت هذه العمليات، عدا عملية عبهلة، قد استكمل بناء دولة محكومة بقوانين يقف هو على رأسها. فقد كانت سلطته إلى ما بعد الخندق لا تزال متداخلة مع سلطة التقليد القبلي ولم تصل بعد إلى حد تمكينه من إصدار أوامر كهذه وتنفيذها بواسطة أجهزة الدولة. يضاف إلى أن بعض المطلوبين كانوا خارج مدى سلطته ومتحصنين في مواقع عسكرية، فلكي تتم تصفيتهم كان لا بد من إجراء عسكري يتولاه فدائيون وليس جلادون.
إن ما جرى بالفعل هو عمليات اغتيال وليس إجراءات تنفيذ حكم بالإعدام. وقد تمت على أساس عنصر المباغتة المعروف في حروب العصابات.

[1] ـ ص99 من. ط ـ القاهرة 1949م (باب مقتل الحسين). أنظر أيضاً: «الأخبار الطوال» للدينوري ص236 مصر 1330هـ.

[2] ـ ج 2/122 ط ـ القاهرة 1914.






__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:15 PM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke