Forum of Fouad Zadieke   Arabic keyboard

العودة   Forum of Fouad Zadieke > المنتدى الديني > المنتدى المسيحي > موضوعات متنوّعة

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-01-2012, 02:35 PM
الصورة الرمزية fouadzadieke
fouadzadieke fouadzadieke غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Jun 2005
المشاركات: 45,595
افتراضي القبائل العربية المسيحيّة في بلاد الشام في عهد صدر الإسلام. بقلم: الأرشمندريت اغناط

القبائل العربية المسيحيّة في بلاد الشام في عهد صدر الإسلام


بقلم: الأرشمندريت اغناطيوس ديك
مقدّمة
في إطار هذه الندوة حول بلاد الشام في عصر الرسول والخلفاء الراشدين نتوقّف عند شريحة هامة ومميّزة من المجتمع في بلاد الشام في هذه الحقبة الحساسة أعني القبائل المسيحيّة العربيّة، لنستعرض موقفها من الفتح الإسلامي ومن الدين الجديد وموقف الدولة والمجتمع العربي والإسلامي منها، ودورها في بزوغ الحضارة الجديدة.
ولا بدّ لنا من الرجوع قليلاً إلى الوراء لنستعرض نشأة المسيحيّة عند هذه القبائل العربية ونوسّع أفقنا الجغرافي ليشمل أيضاً الجزيرة العربية وأطراف العراق .
والمؤرّخون القدامى المعاصرون للأحداث يميّزون بين هذه القبائل العربيّة الأصل عن سائر سكّان بلاد الشام السريان والروم الذين اندمجوا لاحقاً بالعروبة.
وإنّي أعتمد في بحثي بشكل خاص على دراسة الدكتورة سلوى الحاج صالح – العائب "المسيحيّة العربيّة وتطوّراتها من نشأتها إلى القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي" التي ظهرت في بيروت عام 1997.

أولاً: المسيحيّة عند العرب قبل الإسلام
1- العرب النصارى في بلاد الشام
نبدأ من بلاد الشام لأن المسيحيّة انطلقت من بلاد الشام وفيها أولاً اعتنقت القبائل العربية النصرانيّة. التواجد العربي في أطراف بلاد الشام بدأ مع الأنباط والتدمريين والثموديّين والصفويّين وبادت مملكتهم وكانوا وثنيّين. أمّا الحضور العربي بالشام في شكله القبلي البدوي فتعرّضت له مصادر عديدة.
تتفق مختلف المصادر على أنّ قبائل قضاعة كانت من أول القبائل. يذكر المسعودي: "وكانت قضاعة أول من نزل الشام وانضلفوا إلى ملوك الروم فملكوهم بعد أن دخلوا في النصرانيّة على من حوى الشام من العرب" (المسعودي مروج الذهب ج1 ص 421). وصرّح اليعقوبي بالشيء نفسه (تاريخ ج1 ص 421). وقبائل قضاعة عديدة وكانوا من فرسان الزباء (الطبري). ومن قبائل بني سليح تذكر المصادر الضجاعم نسبة إلى ضجعم بن سعد وقد كانوا ملوكا بأطراف الشام من فلسطين إلى قنسرين قبل الغساسنة (ابن الكلبي نسب معد واليمن الكبير ج2 ص 449، ابن الأثير، الكل ج2 ص 303) ويستفاد من روايات الإخباريّين أنّ هيمنة بني سليح على من بالشام من العرب عرفت نهايتها على أيدي بني جفنة الغساسنة. وينحدر هؤلاء من الأزد من كهلان هاجروا اليمن نحو الشمال مع غيرهم في أواسط القرن الرابع وكانوا في بلاد الشام في أواخر القرن الخامس الميلادي وهم أولاد جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر. موطنهم الجولان وحوران كما يستدلّ من عقد البيزنطيّين لكبيرهم الولاية على تلك الأطراف ليردوا عنها غارات العرب المناذرة عمّال الفرس.
وفي شمال بلاد الشام استقرّت قبائل تنوخ قادمة من العراق إلى الشام وهروبا من ضغوط الفرس (القرن الثالث) واستقرّت في مناطق قنسرين وحلب ويروي الخبراء أن هناك قبائل أخرى نزحت إلى الشام من ذريّة كهلان طي وعاملة ولخم وجذام.
ومن القبائل العربيّة التي ثبت هجرتها إلى الشام في عهد قريب من مجيء الإسلام كلب بن وبرة، جاءوا من نجد وقطنوا نواحي تدمر وخناصر والبقاع. وهناك قبائل أخرى يذكرها الخبراء وقد تتضارب الروايات في نسبها وليس لها من مقر ثابت وهي دائمة التحرّك ومنها بهراء وبلي وإياد بن نزار.
كان العرب يدينون بالوثنيّة السامية إلا أن مجاورتهم لمسيحيّي سورية المنظمين في البطريركيّة الأنطاكيّة فتحهم على المسيحيّة. بدأ تنصيرهم بشكل مكثّف في القرن الرابع بعد أن قويت المسيحيّة في سورية على أثر الحريّة التي منحها قسطنطين الملك. وتواصل في القرن الخامس. وفي أواخر القرن السادس كانت المسيحيّة غالبة على عرب الشام وتمّ ذلك بفضل الرهبان المتواجدين في الصحراء وأحياناً بحملات تبشيريّة منتظمة قام بها بعض الأساقفة.
ويذكر المؤرّخ البيزنطي /سوزومين/ (أواسط القرن الخامس) أن الملكة العربية /ماوية/، في جنوب بلاد الشام كان لها نزاع مع الإمبراطور /فالنس/ حوالي 373 وكان من شروط المصالحة أن يعينوا أسقفاً عربيّاً هو موسى راهب متعبد من قبيلتها. ولمّا سيّم أسقفاً كان عدد النصارى قليلاً فعمل بنشاط على تنصيرهم.
وتذكر المصادر الكنسيّة تنصّر/زوكوموس/ وكان أحد عمال الرومان في عهد فالنس. تنصّر هو وقبيلته بعد أن وهبه الله ولدا بفضل صلاة أحد النساك. وتذكر المصادر العربية ضجعم جد قبيلة الضجاعمة من بني سليح (هذا الاسم أصبح باليونانيّة زوكوموس) وتتحدّث عن ملك للقبيلة نصراني ينسب إليه دير داوود جهات مادبا ويقول عنه ابن الكلبي. "وكره الدماء والدنيا والقتل وتعبدّ في نصرانيته" نستنتج من هذا تنصر قبيلة سليح في نهاية القرن الرابع وفي المصادر العربية ما يدعم هذا الرأي، فالمسعودي يقول: "ثمّ وردت سليح الشام فغلبت على تنوخ وتنصرت فملكتها الروم على العرب الذين بالشام".
وتواصل تنصّر القبائل العربية خلال القرن الخامس، وأقيم لهم أساقفة عرفوا بأساقفة المضارب أو أساقفة العرب. تذكر سيرة القديس افتيميوس الذي عاش في صحراء القدس في القرن الخامس أنه نصّر شيخ قبيلة عربية اسمه اسباباط بعد أن شفي ابنه المصاب بالشلل وتنصّرت معه القبيلة كلّها. وسيم الشيخ أسقفاً باسم بطرس. وكان هناك مركزان آخران لأساقفة المضارب قرب دمشق وقرب بعلبك واشترك أساقفتها في المجامع التي عقدت في هذه الفترة.
أما عرب الشمال فقد تنصّر عدد كبير منهم بفضل القديس سمعان العمودي ومنهم بنو تنوخ في حاضر قنسرين وحلب (القرن الخامس).
ولا نعرف شيئاً عن تنصّر غسان قبل القرن السادس. وكانوا قبلاً وثنيين ويروي الطبري أن الحارث بن أبي شمر أهدى سيفه لبيت الصنم. ثمّ تأثّر بالراهب يعقوب البرادعي الذي عمل على نشر المسيحيّة بين الغساسنة كما أنّ الحارث دعم يعقوب البرادعي لمّا سيّم أسقفاً وساعده على توطيد الكنيسة المعارضة للملكيّين أنصار المجمع الخلقيدوني . وأقيم أسقفيّة خاصة بهم اسمها أسقفيّة غسان. بعد انهزام الروم أمام الفرس عام 580 حُملت المسؤولية للمنذر بن الحارث فنفاه الروم. وانقسمت المملكة ويقول المؤرخ ميخائيل الكبير السرياني: "منذ نفي النعمان اضمحلت مملكة نصارى العرب بسبب خيانة البيزنطيّين وبدأت بدعة الخلقيدونيّين تنمو وسطهم". ويصرح المؤرّخ الكنسي البيزنطي /افاغريوس/ أنّ البطريرك غريغوريوس الملكي قام بحملة تنصير كبيرة في قلب صحراء الشام ونجح في إدخال قبائل عربيّة يعقوبيّة في الكنيسة الملكيّة.
أثبتت المصادر العربيّة أيضاً تنصّر قبيلة بهراء بين حمص وتدمر وخناصر. وتغلب في الجزيرة الفراتيّة وفروع من قبيلة كلب وإياد بن نزار.
ويتبيّن أنّ المسيحيّة غلبت على عرب الشام في أواخر القرن السادس دان بها أشرافها وأمراؤها. وكانت لهم في بعض المناطق أبرشيّات خاصة رئسها أحياناً أيضاً عرب من القبيلة وإنّما ظلّت مرتبطة بالكنيسة السريانيّة والملكيّة ولم تؤلّف طقساً وكياناً مستقلاً.
2- العرب النصارى في العراق
بدأ الاستيطان العربي بالعراق بشكله القبلي منذ بداية القرن الثالث وتواصل في القرنين الخامس والسادس، وتمتد ديار القبائل والبطون العربية من أقصى جنوب العراق إلى شمال الجزيرة الفراتية على ضفتيّ نهر الفرات. في الجنوب عرب الحيرة (العباديون) وإياد. في الوسط تغلب والنمر وتنوخ وفي الجزيرة تنوخ وتغلب وبكر بن وائل وإياد. سكنوا بعض المدن الحيرة والأنبار واحتفظ أغلبهم بحياة البداوة.
دخلت المسيحيّة بلاد فارس منذ عهد السلالة الإرشادية وتواصل في عهد الساسانيّين. وقد تمّ ذلك بواسطة الأسرى الذين جلبهم شابور خلال حملاته الثلاث على الإمبراطوريّة الرومانيّة وكان معظم هؤلاء الأسرى من المسيحيّين اليونانيّين ومنهم أساقفة وبطاركة (البطريرك الإنطاكي ديمتريانوس). وتنظمت الكنيسة حول العاصمة المدائن.
أقدم الشواهد الثابتة على تنصر عرب العراق تعود إلى القرن الرابع.
حسب التاريخ السعرتي، انتشرت المسيحيّة بمنطقة الحيرة في أواخر القرن الرابع كما تشهد بذلك الأديرة التي في جوارها. وأصبحت الحيرة في مطلع القرن الخامس أسقفية تابعة للمدائن. إذ حضر أسقفها مجمع 410 الذي فيه تمّ قبول المجمع النيقاوي ثم مجمع 424 الذي فيه تخلّصت كنيسة فارس من وصاية أنطاكية. إلاّ أنّ الملك النعمان كان وثنيّاً وتعرّض لمن يذهبون لزيارة سمعان العمودي ويتنصّرون على يده وهدّدهم بالموت. إلاّ أنه تراجع عن قراره بعد أن ظهر له القدّيس في الحلم. ثمّ أطلق النعمان الحرّية باعتناق النصرانيّة وبناء الكنائس. ولم يثبت المناذرة على النصرانيّة إلاّ في أواخر القرن السادس. واشتهرت هند بنت الحارث الكنديّة زوجة المنذر التي اعتنقت النصرانيّة وبنت ديرا وهند الصغرى زوجة الشاعر المسيحي عدي بن زيد التي ترهبت بعد مقتل زوجها. كانت الحيرة أولا تابعة للكنيسة الفارسية التي اتسمت بالنسطوريّة ثمّ أنشئ فيها أبرشيّة يعقوبيّة في أواسط القرن السادس تابعة للكنيسة الأنطاكية بواسطة مفريان (رئيس أساقفة) تكريت. ونعرف أسماء العديد من أساقفة الحيرة وكان أسقفها عند ظهور محمد عربيّاً يدعى عديّ بن حنظلة من تنوخ.
وكانت أيضاً الأنبار مركزاً عربيّاً نسطوريّاً من تنوخ ونمر ودعيت مدينة العرب كان لها أساقفة معروفون منذ أواخر القرن الخامس وانقطعت سلسلة الأساقفة النسطوريّين في مطلع القرن السابع. وغلبت عليها اليعقوبيّة.
وكان للنساطرة تواجد بين عرب الجزيرة الفراتية في منطقة نصيبين ونينوى وسنجار ولا نعرف تركيبهم القبلي. ولم يكترث النساطرة للتوسّع كثيراً بين البدو بينما قامت الكنيسة اليعقوبيّة بحركة تبشيريّة منظّمة بينهم قادها الراهب القديس /احودمه/. وهو هدى بني تغلب في شمال الجزيرة في أواسط القرن السادس وكذلك البدو المنتشرين بين الحيرة والأنبار وعرب عاقولا (الكوفة).
وأصبح للعرب اليعاقبة أسقفيّة خاصة، أسقفيّة العرب، في منطقة بيت عرباي في الشمال وكانت لتغلب أسقفيّة خاصة بها تابعة لمفريان تكريت (ممثل البطريرك في العراق وفارس).
3- المسيحيّة في شبه الجزيرة العربيّة
نرى المسيحيّة تدخل اليمن ابتداء من القرن الرابع وتتأصّل في القرن الخامس وتختلف الروايات عن أصل التبشير (بحّارون بيزنطيون تاوفيل، أو تاجر نجراني اهتدى في فارس وعاد مبشّراً...) ونجران مركز هام للمسيحيّة منذ القرن الخامس وسنة 523 قام الملك اليهودي /ذو نواس/ بحملة اضطهاد المسيحيّين وقتل زعيم قبيلة الحارث بن كعب والعديد من المسيحيّين ( يعيّد له البيزنطيّون لهم في 24 تشرين الأول) وشمل الاضطهاد مناطق أخرى من اليمن وحضرموت ظفار، مأرب، مخا. ولمّا دخل الحبش اليمن ساندوا المسيحيّة وتسرّب المذهب اليعقوبي. ولمّا وقعت تحت الحكم الفارسي سنة 597 تسرّب النفوذ النسطوري وتجمّدت أوضاع الكنيسة في اليمن وبقيت فيها مقسّمة. وفي تلك الحقبة بنيت الكنيسة الكبرى المعروفة بكعبة نجران والتي ذكرها الشاعر الأعشى. وقد دعم الأباطرة البيزنطيّون المسيحيّة في اليمن مما يدلّ على تواجد الملكيّين أيضاً فيها.
لم يكن الحضور المسيحي في الأطراف الشرقيّة لشبه الجزيرة العربيّة أقلّ أهميّة منه في القسم الجنوبي الغربي منها. فالكنيسة النسطوريّة نشّطت التبشير وأقامت أبرشيّات على ساحل الخليج من مصب نهر الفرات إلى عمان وفي الجزر. ويظهر أنّ المسيحيّة انتشرت أولا في قطر (بيت القطراي بالسريانيّة). وهناك أبرشية في الداخل بمدينة هجر. أما عن التركيبية القبليّة لنصارى المنطقة (الإمارات الحالية) فقد تجلّى لنا من مصادر أخرى أن النصرانيّة كانت منتشرة أساساً في بني عبد القيس مثلما أورد ابن حزم وإن كان بشيء من المبالغة: "يقال أن اياد كلّها وربيعة كلّها وبكرا وتغلب والنمر وعبد القيس كلّهم نصارى (جمهرة أنساب العرب).
وكما نشط النساطرة في إقليم البحرين فإنّهم نشطوا أيضاً في عمان وهم يدعونها في مصادرهم مزون كما دعاها أيضاً ياقوت الحموي في معجم البلدان. وكان للنساطرة أساقفة هناك منذ الربع الأول من القرن الخامس. وانتشرت المسيحيّة في قبيلة أزد القحطانيّة وبني جرم من قضاعة ومنهم بنو ناجية الذين تنصروا بأكملهم.
وفي نجد وسط الجزيرة العربية قامت مملكة كندة المسيحيّة وقامت بدور تبشيري مهم وسط الجزيرة العربية وشمالها خلال فترة سيطرتها على هذه المناطق من منتصف القرن الخامس إلى القرن السادس. ودخلت المسيحيّة إلى قبيلة طي وبني كلب. كما تنصّر سيد بني حنيفة في اليمامة هوذة بن علي الذي مدحه الأعشى. وظلّ التنصير محدودا ولا نجد تنظيما كنسيّاً معروفاً في نجد واليمامة.
كانت وصلت الحملات التبشيريّة إلى نجد في فترة متأخرة ليست قبل القرن السادس أما الحجاز فلم تصلها تلك الحملات أبداً. وقد أقرّ /لامنس/ في بحثه عن جذور المسيحيّة في مكة بأن العدد الكبير للمسيحيّين فيها ليسوا سوى أجانب أما المسيحيّون من أهالي البلاد فهم حالات نادرة. وكان اليهود مسيطرين على أغلب مدن الحجاز وإن كان فيها بعض العناصر المسيحيّة وكان في تبوك نصارى من كلب. ونجد بمحيط المدن في وادي القرى وعلى طول الطريق التجارية المؤدّية إلى الشام رهبانا نصارى وأديرة.
خلاصة: كان للمسيحيّة حضور ملموس قبل ظهور الإسلام. ويقول الجاحظ في كتابه "الرد على النصرانيّة" : كانت النصرانيّة غالبة على ملوك العرب وقبائلها، على لخم وغسان والحارث بن كعب بنجران وقضاعة وطيّ في قبائل كثيرة وأحياء معروفة (ص 5).
على العموم تعمّقت المسيحيّة لدى الحضر ولدى من لهم تنظيم سياسي يفوق القبيلة(ملوك) ولدى كلّ من لهم علاقة مع العالم الخارجي أي عرب الأطراف المنظمين. أما على المستوى القبلي فقد انتشرت المسيحيّة على الخصوص في قبائل قضاعة وربيعة واليمن وارتبط ذلك بهجرتها إلى الشام والعراق. وبالمقابل كان انتشار المسيحيّة محدوداً للغاية في قبائل مضر (الوسط والغرب).
إنّ القبائل المتنصّرة تنصّرت بأشرافها وعامتها ولم تتمكّن من السيطرة على قبائل بأكملها: فالرابطة الدمويّة لم تكن العنصر الحاسم في تنصّرها بل انتشارها الجغرافي. وبقيت الديانة المسيحيّة في مستوى الديانة القبليّة ولم تتطوّر إلى مستوى الديانة القوميّة عند العرب قبل الإسلام.
وظلّ العرب النصارى مرتبطين بكنائس أخرى ومنقسمين إلى مذاهب ولم يشكّلوا كياناً كنسيّاً موحّداً برئاسته وطقوسه. وصادف أن انهارت في أواخر القرن السادس جميع الممالك العربيّة المتأثّرة قويّاً بالمسيحيّة حمير وكندة والحيرة وغسان فظلت الوثنيّة العربيّة غالبة على العرب إلى أن جاء الإسلام.
ثانياً: المسيحيّة العربيّة في ظلّ الدعوة الإسلاميّة
1- الموقف القرآني من الديانة المسيحيّة
- تعرّض القرآن للمسيحيّة والمسيحيّين في حوالي 117 آية.
- عيسى هو المسيح ولكن لا يعطي القرآن كلمة "مسيح" المعنى المقصود في العهدين القديم والجديد. إنّه رسول ونبي مفضّل على الأنبياء جاء بالإنجيل "هدى وموعظة للمتقين" وللإنجيل شريعة خاصة به "لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (مائدة 8). لا يذكر القرآن صراحة أن الإنجيل المتداول لدى المسيحيّين قد حرّف كما يرى المفسرون للقرآن. إنما يتصدّى لأهم العقائد المسيحية. ينفي القرآن الثالوث (نساء171، المائدة73). يلتقي القرآن مع المسيحيّة بأن عيسى يولد بدون أب بشري وإن قال عنه كلمة الله وروح منه فإن هذا التشابه شكلي والقرآن لا يعطي العبارتين المدلول اللاهوتي الذي يعطيه المسيحيون. (مائدة 72، 116، 117) الروح القدس مذكور في القرآن إلاّ أنه لا يرد بالمعنى المسيحي (الأقنوم الثالث). الثالوث المقصود في القرآن هو الآب والابن والأم (الصاحبة). وهكذا نلاحظ بصدد ردّ القرآن على عقيدة التثليث أنه تناولها من زاوية اعتبار أنّ المقصود بالثالوث ثلاثة آلهة فضلا عن كونه اعتبر مريم لا الروح القدس عنصرا من عناصر ذلك الثالوث. وتقول سلوى بالحاح صالح: "إذا اعتبرنا أن عقيدة التثليث الرسمية للكنيسة المسيحية غير ذلك في عناصرها ومقصدها فإننا نجد أنفسنا مدفوعين إلى التساؤل إن لم يكن القرآن تعرض في نصه إلى الردّ على بعض المعتقدات المسيحية التي واجهت بها بعض الفرق المتواجدة في الجزيرة العربية الرسالة المحمديّة وليس على العقيدة المسيحيّة عامة وبشكل منهجي وكامل" (ص 115).
- يعتبر القرآن النصارى من أهل الكتاب ويتمتعون في بعض الآيات بمكانة أحسن من مكانة اليهود: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين أمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" (مائدة 82، 83 راجع أيضاً سورة القصص 52، 53 و آل عمران 113 – 114).
إنّ الخطاب الموجّه إلى النصارى ودعوتهم إلى الإسلام يتطور من اللين والحوار والترغيب إلى الشدّة والتحذير: لا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن" (عنكبوت 46) أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (نحل125). ويتطور الأسلوب السلمي إلى المحاجة ومقارعة الحجة بالحجة. "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" (بقرة 212). ويصل الأمر أحيانا إلى دعوة أهل الكتاب إلى "المباهلة" أي الملاعنة وهي مستوى من مستويات الجدال عند انقطاع مجال التحجيج (آل عمران 61). ويدعوهم في آخر مراحل التنزيل إلى التوبة (التوبة 104). وما تنفرد به سورة المائدة بدعوة إلى القتال لا يمكن أن ينسخ كلّ ما سبق في شأن التعامل مع أهل الكتاب: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). إنّ النصارى يؤمنون بالله وبالآخرة وهذه الآية لا تنسجم مع موقف محمد من وفد نجران.
- رغم معارضته للعقيدة المسيحية فالقرآن لا يساوي في أحكامه النصارى والمشركين. فالنصارى لا يرغمون على الإسلام مقابل دفع الجزية. ويتيح للمسلمين أن يأكلوا من أكلهم وأن يتزوجوا نساءهم (مائدة 5). ويسكت القرآن عن زواج المسلمة من الكتابي. وما جاء في الآية 10 من سورة الممتحنة يحرّم زواج المسلمة من الكافر وهذا لا يجوز تطبيقه على المسيحي. وترى سلوى بالحاح صالح أنّ المفسّرين انقادوا إلى تأويل القرآن بحيث يمنع زواج المسلمة من كتابي انطلاقا من موقف اجتماعي (ص 125).
2- وضعية المسيحيّة العربيّة في الفترة النبويّة
دعى محمد المسيحييّن العرب إلى الإسلام بأسلوبين دبلوماسي وعسكري. وبدأ اتصاله بهم في فترة متأخّرة من سنة 6 إلى 10 للهجرة وكان منشغلاً قبلاً بقريش واليهود. ودخل الإسلام أقليّة ضئيلة من مسيحيّي العرب وكانت الأسلمة في بعض الحالات تابعة لقتال عسكري كما هو الحال لأسلمة قسم مسيحيّي كلب بدومة الجندل (شمال وسط نجد على حدود الشام) وفي حالات أخرى (سادة حمير) الرغبة بعد انتصارات محمد على قريش في الحفاظ على مصالحهم وسلطتهم.
- كانت الحملة الأولى على دومة الجندل عام 5 لأسباب تجارية، حماية طريق القوافل. الرحلة الثانية بقيادة عبد الرحمن بن عوف عام 6 أدّت إلى أسلمة جزء من أفراد القبيلة الكلبية. وتوافد بعضهم على المدينة للدخول في الإسلام وفي عام 9 قامت حملة خالد بن الوليد وفرض الجزية على من تبقى من النصارى.
- وتوجّه محمد إلى أطراف الشام الجنوبيّة لإخضاعها لسلطته. ففي معركة موته في البلقاء عام 8 انضم إلى جيش الروم قضاعة وغيرهم من نصارى العرب (الواقدي). وآلت هذه المعركة لفائدة الروم. ولم يحقق المسلمون أيضاً نتائج ملموسة في غزوة ذات السلاسل (تقع وراء وادي القرى) وفي غزوة تبوك عام 9 حيث حشد الروم جيشا يسانده العرب النصارى، لم تحدث مصادمة. ولم يدخل الإسلام نتيجة هذه المعركة إلاّ أفراد قلائل. ورفض الحارث بن شمر الغساني الرسالة التي تدعوه إلى الإسلام ورمى بها. وقد تكون هذه المواقف قد شدّدت من تصلّب محمد من النصارى في آخر عهده.
- ولمّا وجّه محمد دعوته إلى أطراف البحرين التحق بالإسلام قبائل عبد القيس. وظلّت المسيحيّة قائمة بين الأعاجم فيها والتحق بالإسلام أفراد من بني ناجية في عمان. كما التحق أفراد قلائل من بني تغلب بالإسلام وقدم وفد من النصارى إلى المدينة فعاهدهم محمد على أن يبقوا على دينهم شرط أن لا ينصروا أولادهم. وهذا موقف متميّز.
- وفي اليمن استجاب بعض السادة للدعوة إلى الإسلام. ولم يتشدّد محمد في إجبار النصارى على ترك دينهم وأمر عامله معاذ بن جبلة بأن لا يفتن نصرانيّاً عن دينه وفرض عليهم الجزية.
- وخصّ محمد أساقفة نجران برسالة يدعوهم فيها إلى الإسلام أو دفع الجزية وإن أبوا هذا وذاك فالحرب. فبعث نصارى نجران بوفد عام 10 ليناقشوا الأمر. وأوردت الروايات الإسلاميّة هذا الخبر بكثير من التفاصيل. ومن الوقائع المرتبطة بمجيء هذا الوفد والمثيرة للانتباه أن الرسول سمح لوفد نجران لمّا حان وقت صلاتهم بالصلاة في مسجده متّجهين إلى الشرق. ودارت مناقشة دينيّة بين محمد والوفد النجراني انعكس مضمونها في سورة آل عمران ولم يقتنع الوفد بحجج محمد ليتخلّوا عن عقائدهم المسيحيّة. فدعاهم إلى المباهلة أي الملاعنة. فرفضوا. وطلب وفد نجران المصالحة واستجابوا لحكمه عليهم المتمثّل في فرض ضريبة جماعيّة قدّرت بالمنسوجات والمعادن الثمينة يدفعونها كلّ سنة على قسطين. وعاهدهم محمد بالحفاظ على أكليروسهم والبقاء في أرضهم ودوّن ذلك في كتاب احتفظ به نصارى نجران.
يتضح أنّ محمدا نجح في السيطرة سياسيّاً على المسيحيّين العرب في الجزيرة العربيّة ودخل بعضهم في الإسلام والأغلبيّة خضعت للجزية وأقرّت زعامته.
3- وضعية المسيحيّة العربيّة في فترة الخلافة الراشدة
آ- زوال المسيحيّة العربيّة من الجزيرة العربيّة في عهد الخلافة الراشدة
حروب الردّة في عهد أبي بكر
ارتدّ قسم من بني كلب في سنة 11 للهجرة في دومة الجندل بزعامة وديعة الكلبي واستنصروا بالقبائل المسيحيّة في بلاد الشام لمّا علموا بقدوم خالد بن وليد عليهم. إلاّ أنهم هزموا ولم ينج من القتل إلاّ قليلون (سنة 12) وكانت الموقعة أول مواجهة طائفيّة بعد موت الرسول بين عرب مسلمين وعرب مسيحيّين.
وقامت حركة تزعّمتها امرأة مسيحيّة اسمها سجاح. ادّعت النبوءة وقامت بمحاولة غزو أبي بكر في المدينة ففشلت رغم مساندة بعض القبائل لها.
طرد مسيحي نجران من الجزيرة العربية في عهد عمر
لم ينقض مسيحيو نجران العهد وجدّدوا البيعة لأبي بكر. فثبّت أوضاعهم. لكن عمر بن الخطاب أمر بجلاء مسيحيي نجران عن اليمن خوفاً من تعاظمهم (سنة 13) ونزل بعضهم الشام وفقد أثرهم ونزل بعضهم "النجرانية" جنوب العراق وبهم سميت وظلّوا في ذمّة المسلمين. أوصى عمر أمراء الشام والعراق بأن يوسعوهم أرضاً وأن يعفوا من الضريبة لمدة سنتين. وهذا الإجلاء أفقر النجرانيّين وأضعفهم. واشتكوا لعثمان تناقص عددهم فخفّف عنهم الجزية. وطلبوا من علي إرجاعهم إلى وطنهم الأصلي فرفض قائلاً: "إنّ عمر كان رشيد الأمر" . فكان إبعادهم مبادرة سياسيّة من عمر وإن كان بعضهم حاول تبريرها بتوصية من الرسول. لإبعاد المسيحيّين من الجزيرة العربيّة واستمرّ وجود بعض المجموعات المسيحيّة عربيّة كانت أو أعجميّة في اليمن والأطراف الشرقيّة للجزيرة بعد عهد عمر بن الخطاب.
زوال المسيحيّة من عمان في عهد عثمان
يتبيّن من رسالة البطريرك النسطوري أيشوعاب الثالث أن مسيحيّي عمان اعتنقوا الإسلام ليحافظوا على ثروتهم الماديّة. يقول في رسالته التي كتبت بين 50 و 52: "أين أبناؤك أيها الأب أين معابدك أيها القس ؟...إنّهم لم يجبروا لا بالسيف ولا بالنار ولا بالتعذيب والاضطهاد بل استولت عليهم الرغبة في الحفاظ على نصف ثروتهم " مضيفاً أنّ المسلمين لم يطلبوا منهم غير نصف ثرواتهم مقابل بقائهم على دينهم.
على أنا نرى قسماً من بني ناجية العمانيّين باقين على مسيحيّتهم في منطقة ساحل فارس في عهد علي وقد يكونون هاجروا إليها في عهد عثمان أو قبل. وهكذا فلم يعد من وجود ملموس للجماعات المسيحيّة في الجزيرة العربية.

ب – تحوّلات المسيحيّة العربيّة في العراق إبّان الفتح العربي الإسلامي
إخضاع أهل الحيرة للجزيرة
حاصر خالد بن الوليد الحيرة سنة 12 فقاومه أهلها. ولمّا باءت بالفشل كلّ الجهود التي قام بها خالد بن الوليد لحملهم على اعتناق الإسلام بدا له أن يذكّرهم بدمهم العربي: "ويحكم ما أنتم بعرب ؟ ..." فأجابه عدي: "بل عرب عاربة وأخرى متعرّبة" ورفضوا ترك ديانتهم فعرض عليهم خالد الاختيار بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة. فأجابوه: "ما لنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيك الجزية" ولكن في ما بعد عرفت حركة الأسلمة طريقها إلى الفئات الفقيرة والضعيفة منهم.
تكتّل مسيحي بكر بن وائل وعرب الضاحية من أهل الحيرة ضد المسلمين الفاتحين
واجه مسيحيّو بكر بن وائل إلى جانب الفرس خالد بن الوليد في معركة الولجة سنة 12 وقام تكتّل آخر من عرب الضاحية من أهل الحيرة ضدّ خالد في معركة أليَس في السنة ذاتها. وغضب خالد: "فلم تكن له يوم أليَس همة إلاّ ما تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم" وعاملهم بقسوة شديدة لمّا انتهت المعركة لصالح المسلمين إذ أمر بضرب أعناق كلّ الأسرى فجرى دما عبيطا فسمي نهر الدم (الطبري)
إنّ خالد وجّه ضربة قاسية إلى المسيحيّة العربيّة جنوب العراق أدت إلى إضعافها منذ عام 12. وتعتبر هذه المواجهة الطائفية بين مسيحيّين عرب ومسلمين الأولى والأخيرة في كلّ مراحل فتح العراق. وذلك أن بقية المسيحيّين العرب سيقبلون بدفع الجزية أو يعتنقون الإسلام بل أن أغلب المسيحيّين العرب نشطوا إلى جانب المسلمين في مقابلة الفرس.
قيام المسيحيّين العرب إلى جانب المسلمين في قتالهم الفرس
أبو زيد الطائي الشاعر المسيحي قاتل الفرس في معركة الجسر سنة 13. وفي معركة البويب في السنة نفسها كان من بين الإمدادات التي تدفّقت على المسلمين فرسان من قبيلتي النمر بن قاسط وتغلب المسيحيتين وقبيل انطلاق المعركة توجّه المثنى بن الحارثة قائد المسلمين إلى أنس بن هلال النمري طالباً نصرته: "يا أنس إنّك أمرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي" وقال للزعيم المسيحي الآخر مثل ذلك فاستجاب له. وكانت نهاية مهران قائد الفرس على يد غلام تغلبي.(الطبري)
واستمرت مساندة المسيحيّين العرب للفاتحين المسلمين عند محاصرتهم لمدينة تكريت سنة 16
إياد وتغلب المسيحيّتان تفضّلان الخروج من بلاد الإسلام والالتحاق ببلاد الروم
لمّا دخلت الجيوش الإسلاميّة الجزيرة الفراتيّة سنة 17 اختارت قبيلة إياد المسيحيّة الهروب إلى بلاد الروم والاحتماء ببني دينها. وكانت ردّة فعل عمر بن الخطّاب ردّة حادة إذ طالب ملك الروم بإخراجهم وإلاّ طرد كلّ المسيحيّين المقيمين في بلاد الإسلام. فعاد معظمهم إلاّ من تخفى. وهدّدت تغلب المسيحيّة القاطنة بجهة عانات بالهروب أيضاً إلى بلاد الروم لما أراد عمر أخذ الجزية منها. وللحفاظ عليها في بلاد الإسلام أسرع عمر لإرضائها بإعفائها من الجزية وتعويضها بصدقة مضاعفة. وهذه المعاملة الخاصة للتغلبيّين كانت لقوّتها وغناها.
مساندة بني ناجية للثورة ضدّ علي
على أثر الاضطرابات التي لحقت مقتل عثمان أنضمّ بنو ناجية إلى الثائرين ضدّ علي. وتوقّف المسيحيّون عن دفع الجزية وارتدّ إلى المسيحيّة جزء ممن أسلموا إذ قالوا: "والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين هم عليه، ما ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبيل وأخذ الأموال" (الطبري) وبعد انتصار عليّ تشدّد على بني ناجية لا سيّما المرتدين منهم. فأعمل فيهم قتلاً وسبى المسيحيّين وشتّتهم.
ج – التحوّلات المسيحيّة العربيّة في الشام إبّان الفتح الإسلامي
- المسيحيّون العرب ينصرون النصرانيّة على العرب في بداية فتح الشام. "إنّ الروم ومن كان على دينهم من العرب قد اجتمعوا على حرب المسلمين" (الأزدي). وجاء في تاريخ الطبري أن بهراء وكلب وسليح وتنوخ ولخم وجذام وغسان انضموا إلى الروم لمّا علموا بنزول جيش المسلمين بتيماء.
- انقسام في موقف المجموعة المسيحيّة العربيّة وهجرة إلى بلاد الروم.
قال الأزدي (فتوح الشام) عند تعرّضه لمعركة فحل (الأردن) سنة 13: "إنّ لخم وجذام وغسان وعاملة والقيس وقبائل من قضاعة دخلوا مع المسلمين..." فمنهم (النصارى العرب) من حمى العرب وغضب لهم وكان ظهور العرب أحبّ إليهم من الروم وذلك من لم يكن منهم على دينه راسخاً".
استمرّت مساندة المسيحيّين العرب للمسلمين في المعارك الكبرى إذ يذكرهم الازدي مع جيش المسلمين في معركة أجنادين واليرموك. كما يخبرنا أنّ فريقاً جديداً من المسيحيّين العرب التحق بالمسلمين قبيل انطلاقة معركة اليرموك واعتنق الإسلام لكن خالد بن الوليد وأبو عبيدة الجراح طلبا منهم التكتم على إسلامهم والعودة إلى معسكر الروم والاندساس في صفوفهم للاستخبار عن أحوالهم ومخطّطاتهم. وفي الوقت نفسه كان مع جيش الروم عدد كبير من المسيحيّين العرب من لخم وجذام وبلقين وعاملة وغسان عليهم جبلة بن الأيهم الغساني (الطبري) (12000 حسب رواية ابن اسحق)
وتحذّر عمر من جبلة بن الايهم ولمّا رفض هذا الإسلام ودفع الجزية دعاه إلى الرحيل عن الشام. فدخل جبلة بلاد الروم في جمع من غسان وإياد وقضاعة ولخم وجذام. وتقول المصادر أنهم كانوا أربعين ألفا.
إخضاع المجموعات المسيحيّة العربيّة المتحضرة في شمال سورية للجزية
وكان ذلك سهلا لأبي عبيدة الجراح فلمّا مرّ ببعلبك طلب منه أهلها الصلح "ولم يميّز أهل بعلبك رومها وفرسها وعربها". ولمّا جاء حاضرة قنسرين سنة 17 دعا تنوخ إلى الإسلام فأسلم بعضهم وبقي بنو سليح على المسيحيّة كما صالح أبو عبيدة على الجزية أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم بحاضر حلب وبني كلب بخناصر ومسيحيّي حاضر طي (البلازري).
لكن هناك فئة ثانية احتوت غساسنة وتنوخين وإياد كرهت البقاء تحت سلطة الفاتحين وفضّلت الفرار إلى بلاد الروم. فاعترض ميسرة بن مسروق العبسي طريقهم (جهات بيلان) وقتلهم مع من كان معهم من الروم الهاربين. كما تذكر المصادر أن خالد بن الوليد المعروف بشدّته لجأ إلى تقتيل الغساسنة بمرج راهط في يوم فصحهم (البلازري). وكان سلوك أبي عبيدة الجراح مع المسيحيّين العرب أكثر مرونة في تطبيق أحكام الشريعة من دون التشديد عليهم.
إن ملابسات الفتح أضعفت المسيحيّة ببلاد الشام فمنهم من قضى في المعارك وقتل ومنهم من هرب إلى بلاد الروم ومنهم من دخل في الإسلام لا سيّما في الجنوب. وبقيت متمسّكة بمسيحيّتها الأحياء المتحضّرة من تنوخ وطي وبني سليح وبني كلب. والظاهر أنّ ارتباطها القديم بالمراكز المسيحيّة السوريّة (حلب، بعلبك قنسرين) المتواجدة بالقرب منها قد مكنها من الصمود أمام الإسلام. كما ظلّت المسيحيّة في أحياء بني كلب المنتشرة ببادية الشام علاوة على بني تغلب في الجزيرة الفراتية.
وهناك حادثة ذات مغزى رواها مخائيل الكبير السرياني وهي أن عمرو بن سعد (عامل ابن الخطاب على حمص وقنسرين) استدعى بطريرك اليعاقبة يوحنا وسأله عن المعتقد المسيحي وطلب إليه قائلاً: "أنقل لي إنجيلكم إلى لغة العرب ولكن لا تتحدث فيه لا عن ألوهية المسيح ولا عن عن المعموديّة ولا عن الصليب المقدس". ورفض البطريرك هذا الطلب إنما قبل فقط ترجمة الإنجيل من السريانيّة إلى العربيّة بالاعتماد على مسيحيّي تنوخ وطي وعاقولا الذين يحذقون اللغتين.
ثالثاً: أحوال المسيحيّة العربيّة في العصرين الأموي والعباسي الأول
1- التواجد العربي المسيحي
بعد أن هدأت العاصفة التي أثارتها حروب الفتوحات عملت الكنائس على تثبيت من تبقى على دينه من مؤمنيها وساعد على ذلك سياسة التسامح التي سلكتها الدولة الإسلامية تجاه المسيحيّين العرب لا سيّما في عهد الأمويّين الذين كانوا يقدمون أمور الدنيا على أمر الدين وكان للأخطل مكانة لدى الأمويّين وأغروه للدخول في الإسلام فتعلل بالخمر. وهناك رواية أخرى عن هشام بن عبد الملك لما سمع الأخطل مرة يقول: "وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال" فقال له هشام بن عبد الملك يا أبا مالك هذا الإسلام. فقال له الأخطل: "يا أمير المؤمنين ما زلت مسلماً في ديني (الأغاني). والإعتزاز بالقبيلة ساعده على عدم التخلّي عن دينها.
ونشطت الكنيستان اليعقوبيّة والنسطوريّة في القرن السابع. وعدم ارتباطها بقوة سياسيّة كان من أهم عوامل التسامح معها وكانت للأديرة التي ظلّت عامرة زهاء ثلاثة قرون دور في تثبيت المسيحيّين. والمصادر السريانيّة تتيح لنا معرفة الأبرشيّات العربيّة التابعة للكنيسة اليعقوبيّة وأسماء العديد من أساقفتها.
أبرشيّة التغالبة. كان لهم أساقفة حتى القرن الرابع الهجري. وكانوا يقيمون لما جاء الإسلام في المثلث القائم بين الحيرة ومنبج وجزيرة ابن عمر. وفي سنة 70 هجرية انحصرت إقامتهم بين الخابور ودجلة والفرات.
أبرشية نجران والكوفة. جاء إليها النازحون من نجران عام 20، التحق قسم منهم بالكنيسة النسطورية وبقي لهم أبرشيّة تابعة لليعاقبة ودمجت فترة مع أبرشية التغالبة. وبعد القرن العاشر يصمت التاريخ الكنسي عن أبرشية النجرانيين. وإلى جانب النجرانيين في جنوب العراق جماعة مسيحيّة أخرى، بنو عجل وجماعة من بني شيبان. ويتضح من روايات الأغاني أن المسيحيّة ظلت منتشرة في عائلات من بني شيبان زمن الفرزدق إذ تزوج هذا منهم إمرأة مسيحيّة فهجاه جرير (الأغاني). ويرد مرّة اسم أسقف لأبرشيّة عاقولا الكوفة.
أبرشيّة العرب أو القبائل. لا نعرف بالتحديد موقعها، أشهر أساقفتها جرجس أسقف العرب +725 وهو فيلسوف عالم. بعد مطلع القرن العاشر تصمت المصادر عن ذكر أبرشيّة العرب.
وتذكر المصادر النسطورية أبرشيتين عربيّتين الحيرة والأنبار ظلّ فيها أساقفة حتى القرن الحادي عشر كان المجال العربي اليعقوبي أوسع من المجال النسطوري إلاّ أن المسيحيّة العربيّة النسطوريّة عمّرت أكثر وكان للنساطرة العرب دور أهم من اليعاقبة داخل كنيستهم.
ولا نعرف الكثير عن التنظيم المسيحي العربي في بلاد الشام. ويفهم من مخائيل الكبير أنه جرى تعيّين أسقف لقرية كوميت التي كانت لتنوخ سنة 808. وظلّ قسم كبير من بني كلب على نصرانيته وتزوج الخليفة عثمان إمرأة منهم، وكذلك معاوية. وأخوال خالد بن يزيد بن معاوية مسيحيّون من كلب. وكانت ديارهم في بادية السماوة حول تدمر وإثر صراعهم مع قبيلة قيس في عهد عبد الملك طردوا من ديارهم ونزحوا إلى غور الشام والسواحل. وظلّ تغلبيو الشام على مسيحيّتهم لا سيّما الذين كانوا في القريتين ويقول عنها ياقوت الحموي أنّ أهلها كلّهم نصارى. ولا يدهشنا أن تقل الأخبار عن نصارى غسان بالشام بعد أن رحل أميرهم جبلة إلى بلاد الروم أيام عمر ورفضه عرض معاوية لمّا دعاه إلى الإسلام ووعده إقطاع الغوطة بأسرها. (الأغاني)
2- موقف الدولة والمجتمع من المسيحيّين العرب ودورهم في الدولة والمجتمع
التعامل الضريبي: أخضع المسيحيّون العرب إلى الجزية كسائر الذميّين. والمعاملة الخاصة للنجرانيّين وتغلب كان لغناهم وقوتهم العسكريّة لا لعروبتهم. ففرض على النجرانيّين ضريبة إجمالية (ليست على الرأس) 2000 حلّة وكميّة من الفضة. ولمّا نقص عددهم وضعفواطلبواإلى الخلفاء أن يخفّفوا الضريبة. وأما بنو تغلب فعرض عليهم صدقة ضعف ما يفرض على المسلمين. وهي نسبة من الدخل لا تتعلق بعدد الأفراد.
التعامل الديني: تابع المسيحيّون على العموم ممارسة طقوسهم بحريّة ما عدا الفترات التي اتّسمت بالتشدّد (عمر بن عبد العزيز،المهدي) وحظّر عليهم التبشير. واحتفظوا بكنائسهم وأعيادهم وظلّوا يرتادون الأديرة. وإن كانت العهود حظّرت بناء كنائس جديدة فهذا لم يطبق دائماً ولنا أمثلة على أديرة وكنائس بنيت في هذه الحقبة. واشتهر خالد القسري والي العراق (105-120 هجرية) ببناء البيع والكنائس (الطبري). ويقول الجاثليق النسطوري أيشوعاب الثالث (648-658) في إحدى رسائله: "إنّ المسلمين الذين مكنهم الربّ من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون: إنهم ليسوا أعداء النصرانيّة بل يمتدحون ملّتنا ويوقرون قسيسينا وقدّيسينا ويمدّون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا". وكان يسمح لهم بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والاحتكام إلى كهنتهم وأساقفتهم في القضايا الخاصة بهم. (حسب رواية الأغاني كان الأخطل محبوسا في الكنيسة لانتهاكه أعراض الناس) وظلّوا يرتادون المزارات ككنيسة الرصافة ويدقّون الناقوس ويحلفون بالصليب والقربان كما يستدل من الأشعار. وأبو نصر يحي بن جرير التكريتي يذكر حادثة المذبح المحمول الذي كان العرب النصارى من بني تغلب واليمن وغيرهم ينقلونه مع تنقلهم وأنهم كانوا يقدسّون بالعربيّة (أول قدّاس بالعربيّة سنة 300 هـ). وكانت الجنازات تشيع بحفاوة . قال جرير في جنازة الأخطل: "تنوح بنات أبي مالك ببوق النصارى ومزمارها. ويذكر المؤرّخون عن جنازة أبجر بن جابر العجلي أنه مات بالكوفة على النصرانيّة فشيع جنازته أشراف العرب معهم قسيسون يتلون الإنجيل.
ولم يكن من تفرقة بين المسيحيّين العرب والمسلمين. كان أبو زبيد المنذر بن حرمله الطائي صديق الوليد بن عقبة والي الكوفة لعثمان بن عفان. ويقال أنّ الوليد أوصى بأن يدفن إلى جانب أبي زبيد وقيل أنّ أبا زبيد أوصى أن يدفن إلى جنب الوليد. وكان الأخطل منذ شبابه صديقاً ليزيد بن معاوية يرافقه ويلازمه حتى في الحج إلى بيت الله الحرام. وكان الأخطل حكما لقبيلة بكر بن وائل في المسجد. وكان يدخل مسجد دمشق فيقوم له المسلمون إجلالاً وكان يدخل حمام المسلمين بالكوفة بكلّ حرّية (الأغاني) ودعاه بنو رؤاس للدخول إلى مسجد الكوفة وللصلاة فاعتذر قائلاً: أصلّي حيث تدركني صلاتي وليس البر عند بني رؤاس.
3- الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأدبية
احترف مسيحيّو الحيرة مهنة الصيرفة والجواهر واشتهر عون الجوهري بثراءه وكان يقرض رجالات الدولة العباسيّة واستضاف الخليفة الأمين ثلاثة أشهر مع حاشيته. كما اشتهر عباد الحيرة بصنع الخمور واشتغل نصارى نجران بصناعة النسيج وكانوا أيضاً دبّاغين وقرّادين. وكان بنو تغلب رعاة ومزارعين وتجاراً. يربّون الإبل والغنم والخيل في البادية ويعنون بالزراعة في القرى وعلى ضفاف الأنهار وكانوا يسيطرون على طريق التجارة الكبرى بين الخليج والمتوسّط. فكان بين المسيحييّن العرب طبقة ميسورة، صيارفة وجوهريّين وتجّار وطبقة عامّة، النسّاجين والدبّاغين والقرّادين والمزارعين والرعاة.
وقام بينهم في العهد الأموي شعراء منهم من الدرجة الأولى كالأخطل ومنهم من الدرجة الثانية: أبو زبيد الطائي القطامي، أعشى تغلب، القاسم الطويل العبادي، أبو قابوس عمرو بن سليمان الشيباني، وكان أهل الحيرة بارعين في الموسيقى والغناء. (يذكر الأصفهاني أخبار حنين بن بلوع الحيري في 17 صفحة من كتابه الأغاني)
فإن كان للمسيحيّين العرب مكانة عليا في المجال الأدبي والاقتصادي والاجتماعي فإنهم لم ينعموا بالوظائف السياسيّة. تقول سلوى بالحاج صالح: "لا أحسبنا نجانب الصواب إذا قلنا أن فئة المسيحيّين العرب لم تكن في مرتبة دنيا في المجتمع الإسلامي. وإنّ العلاقة بين العربي المسلم والعربي المسيحي سيطرت عليها القرابة الدمويّة والأخوّة العربيّة. فلم يفتح المسلم على أخيه المسيحي باب الذلّ والاحتقار. أما المواقف المعبّرة عن ازدراء المسلمين للمسيحيّين وتعييرهم بدينهم فهي نادرة. فلدى جرير منافسة شخصيّة مع الأخطل. ويلوم جرير زيق الشيباني النصراني الذي زوج ابنته للفرزدق الذي اشترط مهرها مائة ناقة، بأنه زوّج ابنته لمن لا يليق بمقامه.
لم يكن للمسيحيّين العرب مشاكل مع السلطة والمجتمع (وإن تناوبت أحياناً التدابير المتسامحة والتدابير المتشدّدة) إنما بدأت مشاكلهم مع الفقهاء الذين ادخلوا بعض التصلّب في معاملتهم لهم منذ أواخر القرن الثاني للهجرة.
4- موقف الفقه السني من المسيحيّين العرب
على عكس الشافعية والحنفيّة والحنبليّة لم يهتم المالكيّة بأمرهم. وهو ما يدعونا إلى القول بأنهم اعتبروهم فئة عاديّة من أهل الكتاب.
جاءت مواقف المذاهب الفقهيّة السنيّة بعيدة عن الإجماع. فقد عوملوا عند المالكيّة والحنفيّة كذميّين في جميع المجالات (ما عدا تغلب) وعوملوا كالحربيّين في بعض المجالات عند الشافعيّة والحنابلة بأخذ العشر منهم في تجارتهم (باقي أهل الذمّة نصف العشر). وعوملوا كالمجوس في مجال مناكحة نساءهم وأكل ذبائحهم بتحريمها عند الشافعيّة. وأخرجهم الشافعيّة من أهل الكتاب لأنهم اهتدوا متأخّراً إلى النصرانيّة. وأدخل الحنفيّة والشافعيّة منذ النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة بعض التصلّب تجاه المسيحيّين بإجبارهم على ارتداء أزياء مميّزة ومنعهم من ممارسة شعائر دينهم في أمصار المسلمين (أي المدن التي بناها المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد أو التي فتحت عنوة) وتحديد فضاء تنقلاتهم وإقامتهم. وإن كان الحكام لم يتمسّكوا بهذه الموانع إلاّ أنها طبّقت أحياناً أثناء الأزمات.

رابعاً: اندثار التجمّعات المسيحيّة العربيّة القبليّة
1- الضغط على تنوخ وسليح في عهد الخليفة المهدي العباسي (775-785)
تمكّن المهدي من تحويل كلّ نصارى تنوخ المقيمين بجهة حلب إلى الإسلام. حسب رواية ابن الكلبي تلقّت تنوخ المهدي لمّا خرج إلى الشام وهي على الخيل عليهم العمائم. فقال من هؤلاء ؟ قيل تنوخ وهم نصارى. فدعاهم إلى الإسلام فأبوا فضرب عنق سيّدهم ابن محطّة فأسلم الباقون. وهدم بيع تنوخ. فليس من تنوخ نصراني (ابن الكلبي نسب معدو اليمن الكبير ج2 ص406، 407) وتحدد رواية مخائيل الكبير تاريخ وقوع الحادثة في سنة 779-780 وتقول إن المهدي أكره على الإسلام من تنوخ 5000 رجل. أما النساء فتمكنّ من الفرار إلى كنائس الغرب. ويذكر في هذه المناسبة استشهاد رجل يدعى الليث. وفي عهد الأمين أجلى القائد العباسي بن زفر تنوخ عن حاضرهم وخربوه فانتقلوا إلى قنسرين فأخرجوا منها فتفرّقوا في البلاد. وحصل أيضاً في عهد المهدي دخول بني سليح المقيمين بحاضر قنسرين في الإسلام. ويظهر أنّ سليح تفرّقت بعد ذلك.
2- نهاية التجمّعات المسيحيّة العربيّة في العراق
- ظلّ النجرانيّون يتناقصون بسبب تفرّقهم وموت من مات وإسلام من أسلم. وأصبحوا في عهد عمر بن عبد العزيز عشر ما كانوا عليه (4000) وآخر أسقف سيم عليهم سامه البطريرك باسيليوس (923-934) وبعد ذلك يصمت عنهم التاريخ.
- بدأ تراجع الحيرة منذ نشأة الكوفة بجوارها وهاجر إلى هذه المدينة عدد كبير منها. وفي سنة 927 قصد الأعراب الحيرة ونهبوها وأمعنوا فيها الخراب ويشهد المسعودي (القرن العاشر) على خراب ديارات الحيرة إذ قال: " ولم يزل عمرانها يتناقص إلى أيام المعتضد فإنه استولى عليها الخراب وقد كان فيها ديارات كثيرة فيها رهبان فلحقوا بغيرها من البلاد لتداعي الخراب إليها وأقفرت من كلّ أنس في هذا الوقت إلاّ الصدى والبوم (مروج الذهب ج3 ص110)
وقد حصل المصير نفسه للإنبار إذ تعرّضت لهجمات الأعراب ولم تقدر جيوش المعتضد على مقاومتهم فأقاموا يعيثون فيها وعرى الخراب المدينة في القرن الرابع الهجري زمن ابن حوفل.

3- انحطاط تغلب وتشتتها
تراجع الحضور المسيحي في الجزيرة الفراتية في القرن العاشر نتيجة دمار العديد من المراكز المسيحيّة بسبب الاضطرابات السياسية والصراع بين حمدان والأتراك. وتعرّضت تغلب لنكسات نتيجة للحرب الداخليّة التي وقعت بين عشائرها والتي يشير إليها البحتري في قصيدتين (القرن التاسع). وفتك القرامطة بالتغالبة في منطقة نصيبين عام 316. وكثرة القلاقل في الجزيرة بسبب رحيل فريق من بني تغلب إلى أرض الروم سنة 330 هجرية (يعرفهم ابن حوفل ببني حبيب نحو عشرة آلاف فارس) ويخبرنا ابن حوقل في الوقت نفسه عن دخول الكثير من بطون قيس عيلان من بني بشير وعقيل وبني نمر وبني كلاب إلى الجزيرة الفراتية وإزاحتهم قبائل ربيعة (تغلب) عن ديارهم. ونسمع بعودة عشائر كبيرة لتغلب إلى الجزيرة العربية فابتعدوا عن محيطهم المسيحي.
وكانت قبيلة كلب المسيحيّة قد أزيحت عن مركزها في صحراء الشام (تدمر) في أواخر القرن السابع وتشتت أفرادها. وهاجر كثير منهم إلى بلاد الروم. وخبرنا المؤرّخ ابن سعيد (+1065) أن خلقا عظيماً من بني كلب كان يوجد في أيامه على خليج القسطنطينيّة منهم مسلمون ومنهم متنصرون.
ولم نعد نجد بعد القرن العاشر تجمّعات مسيحيّة عربيّة قبليّة ومن بقي على دينه اندمج مع سائر المسيحيّين في سورية والعراق. وإن بقيت بعض العشائر ذات الطابع العربي في مناطق حوران وشرق الأردن. ويتهيأ لي أن الشعراء والوزراء والكتّاب النصارى في بلاط أمراء حلب المرداسيّين في القرن الحادي عشر وهم من قبيلة كلاب ليسوا من السريان بل من بقايا القبائل العربيّة مما يستشفّ من فصاحتهم.
خاتمة
لم تعش المسيحيّة العربيّة كأقلّية دينيّة خطر التقوقع والانغلاق على الذات. فقد تميّزت جماعة المسيحيّين العرب باندماجها شبه الكلّي في المجتمع الأموي وحتى العباسي الأول وربّما تسمح لنا هذه الحقيقة بمعارضة الرأي القائل بأن السبيل الوحيد إلى الاندماج في المجتمع هو الدخول في الديانة السائدة. إلاّ أنّ انفتاح المسيحيّين العرب على المسلمين كان في الوقت عينه عاملا من عوامل إضعاف مقاومتهم وصمودهم الديني. ولا يمكن أن ينكر أحد الضغط المعنوي الذي مارسه بعض الخلفاء والفقهاء على المسيحيّين العرب بتهميشهم دينيّاً حتى يضطروا إلى التخلّص من هذه الوضعية باعتناق الإسلام. وقد ظلّ كثيرون أمينين لدينهم وعروبتهم واندمجوا مع سائر مسيحي البلاد وتابعوا ولاءهم المزدوج لوطنهم ولدينهم إذ لا تعارض أصلا بين العروبة والمسيحيّة.
المسيحيّون والمسلمون في سورية من نسيج واحد وقد انصهر الفاتحون المسلمون مع القبائل العربيّة المسيحيّة ومع من اعتنق الإسلام من أهل البلاد ومع من بقوا على نصرانيتهم في بوتقة واحدة هي العروبة. وقد زالت الفوارق القديمة التي وضعت على أهل الذمّة. والانتماء الديني هي مسألة قناعة وضمير والتنوّع لا يحول دون اللحمة الوطنيّة ودون متابعة الحوار الديني بالطرق الحسنى.
__________________
fouad.hanna@online.de

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:01 PM.


Powered by vBulletin Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Support-ar
Copyright by Fouad Zadieke