أبو نواس في مجلسِ مُجُونِه بقلم فؤاد زاديكي فِي مَجَالِسِ بَغْدَادَ الشَّهِيرَةِ، ح
أبو نواس في مجلسِ مُجُونِه
بقلم فؤاد زاديكي
فِي مَجَالِسِ بَغْدَادَ الشَّهِيرَةِ، حَيْثُ الحَانَاتِ وَ الْأَمْسِيَاتِ اَلْمَسَائِيَّةِ اَلمُضِيئةِ بِالْمَصَابِيحِ اَلزَّيْتِيَّةِ، كَانَ يَتَوَاجَدُ هُنَاكَ اَلاَشْعَرُ، الَّذِي لَطَالَمَا أَلْهَبَ اَلقُلُوبَ بِمُجُونِ شِعْرِهِ وَ غَرَامِهِ، أَلاَ وَ هُوَ أَبُو نُوَاسٍ. كَانَ أَبُو نُوَاسٍ مِنْ أَشْهَرِ شُعَرَاءِ اَلْعَصْرِ اَلْعَبَّاسِيِّ، وَ كَانَ مَعْرُوفًا بِجَرَأَتِهِ فِي طَرْحِ مَوْضُوعَاتِ اَلغَرَامِ وَ اَلْمَجُونِ، وَ مُبَاهَاتِهِ فِي مَجَالِسِ اَلتَّخْمِرِ وَ الجَمَالِ. فِي هَذِهِ اَلمَجَالِسِ، كَانَ يَخْتَلِطُ اَلاَشْعَرُ بِالْغِلْمَانِ وَ الْقِيَانِ، وَ يُشَارِكُهُمْ لَحَظَاتٍ مِنَ الرَّغْبَةِ وَ اَلْفَتْنَةِ، فَيَلْتَقِطُ بِأَلْفَاظِهِ اَلشّعَرِيَّةٍ صُورَةً عَمِيقَةً عَنْ اَلحَيَاةِ اَلْمَلْأَى بِاَلمُتَعِ وَ اَلْمَغَامَرَاتِ.
وَ قَدْ عُرِفَ أَبو نُوَاسٍ بِبَرَاعَتِهِ فِي اَلغَزَلِ، فَكَانَ يَنْظُمُ أَبْيَاتًا تُشْعِلُ اَلفُؤَادَ وَ تُعَبِّرُ عَنْ اَلمَحَبَّةِ و اَلحُبِّ، وَ لَكِنْ بِأُسْلُوبٍ يَتَّسِمُ بِاَلتَّهَكُّمِ وَ اَلتَّهَوُّرِ. كَانَ غَزَلُهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ جَمَالِ اَلغِلْمَانِ وَ اَلْجَوَارِيِّ، فَيَصِفُهُمْ بِأَوْصَافٍ فَاتِنَةٍ تَبَيّنُ لَهُ مَعَانِي اَلجَمَالِ اَلحِسِّيَّةِ وَاَلْمُغْوِيَةِ. كَانَ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ ذِكْرِ جَمَالِ اَلْوُجُوهِ اَلرُشيقَةِ، وَ نُعُومَةِ اَلأجْسَادِ، وَ حَرَكَاتِهِنَّ اَلْمُغْرِيَةِ. لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُدُودٌ لِمَا يَطْرَحُهُ أَبُو نُوَاسٍ فِي شِعْرِهِ، حَيْثُ كَانَتِ اَلأَجْوَاءُ فِي مَجَالِسِهِ تَكْتَظُّ بِاَلْحَيَوِيَّةِ، وَ كَانَ اَلْجَوُّ يَزْدَحِمُ بِضَحِكَاتِ اَلْشَّارِبِينَ وَ صَخَبِ اَلعُشَّاقِ، فَكَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَحْدُثُ بِحُرِّيَّةٍ تَامَّةٍ.
وَ فِي هَذِهِ اَلمَجَالِسِ اَلمَجْنُونَةِ، كَانَ أَبُو نُوَاسٍ يَتَبَادَلُ اَلْأَحَادِيثِ مَعَ اَلشُّعَرَاءِ، الَّذِينَ كَانُوا يُبَارِزُونَهُ بِشِعْرِهِمْ فِي مَوَاضِيعَ مُشَابِهَةٍ. كَانَ هَؤُلاَءِ اَلشُّعَرَاءُ جُزْءًا مِنْ تِلْكَ اَلبِيئَةِ اَلفَنِّيَّةِ اَلغَنِيَّةِ، الَّتِي تَشَجِّعُ عَلَى اَلتَّحَدِّي اَلشِّعْرِيِّ وَ اَلْمُزَاحِ اَلأَدَبِيِّ. وَ كَانَ أَبُو نُوَاسٍ، بِحُضُورِهِ اَلقَوِيِّ وَ أُسْلُوبِهِ اَلفَذِّ، يَفْرِضُ نَفْسَهُ كَأَحَدِ أَعْظَمِ شُعَرَاءِ عَصْرِهِ. فَكَانَ يَتَبَاهَى بِقُوَّتِهِ اَ لشِّعْرِيَّةِ، وَ يُنَاقِشُ اَلْأَفْكَارَ اَلتَّجْرِيبِيَّةَ بِأُسْلُوبٍ فَنِّيٍّ سَلِسٍ، يُثِيرُ إِعْجَابَ كُلِّ مَنْ حَضَرَ.
لَمْ يَكُنْ أَبُو نُوَاسٍ يَتَعَامَلُ مَعَ النِّسَاءِ وَ اَلْجَوَارِيِّ كَأَجْسَادٍ عَابِرَةٍ، بَلْ كَانَ يَرَى فِيهِنَّ مَصْدَرًا لِجَمَالِهِ وَ لَذَّتِهِ اَلحِسِّيَّةِ، وَ هَذِهِ االرُّؤْيَةُ كَانَتْ تَعْكِسُ شَخْصِيَّتَهُ اَلتَّجْرِيبِيَّةَ وَ اَلْمَجْنُونَةَ. كَانَ يَنْظُمُ اَلشِّعْرَ لِلغِلْمَانِ وَ الْقِيَانِ، يَصِفُهُمْ بِعَيْنٍ فَاحِصَةٍ تَبْدِي إِعْجَابَهُ بِتَفَاصِيلِ اَلجَمَالِ، مِنْ عُيُونٍ وَاسِعَةٍ وَ شَعْرٍ طَوِيلٍ، وَ أَقْدَامٍ صَغِيرَةٍ تَحْرِكُ اَلقُلُوبَ.
تَحْتَ خِيمَةِ اَلمَجُونِ، فِي تِلْكَ اَلمَجَالِسِ، الَّتِي كَانَتْ تَجْمَعُ اَلشُّعَرَاءَ وَ اَلْعُشَّاقَ، كَانَتِ اَلْمُحَادَثَاتُ تَدُورُ حَوْلَ اَ لحُبِّ وَ اَلْجَمَالِ وَ اَلْمَشْرُوبَاتِ اَلرُّوحِيَّةِ، وَ كَانَ أَبُو نُوَاسٍ يَعْتَلِي هَذَا اَلمَجْلِسِ بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ شَغَفٍ وَ تَهَوُّرٍ، يَتَغَنَّى بِاَلغَرَامِ، وَ يَشْرَبُ اَلْخَمْرَ، وَ يَبْتَكِرُ اَلقَصَائِدَ، الَّتِي تَعْكِسُ تَنَوُّعَ هَذِهِ اَلَّحَظَاتِ مِنَ اَلبَهْجَةِ وَ اَلْمَجُونِ.
وَ رَغْمَ أَنَّ شِعْرَهُ كَانَ يَحْتَوِي عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ جَوَانِبِ اَلتَّبارِيحِ اَلْمُتَحَرِّرَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ كَانَ، فِي اَلعُمُقِ، شَاعِرًا مُبْدِعًا يَعِي مَعْنَى اَلفَنِّ وَ اَلْجَمَالِ. كَانَتْ أَبْيَاتُهُ تَنْقُلُ فِي طَيَّاتِهَا مَعَانٍ مِنَ اَلحُبِّ وَ اَلْحُرِّيَّةِ وَ الشَّهْوَةِ، الَّتِي لَا تَقَيِّدُهَا إِلَّا حُدُودُ اَلْخَيَالِ. قَدْ تَبْدُو مَجَالِسُ أَبِي نُوَاسٍ مَلِيئَةً بِاَلْمَجُونِ، وَ لَكِنَّهَا كَانَتْ أَيْضًا مَسَاحَةً للشُّعَرَاءِ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِحُرِّيَّةٍ تَامَّةٍ، وَفِي تِلْكَ اَلمَجَالِسِ كَانَ مِنْ اَلْمُمْكِنِ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَنَفَّسَ اَلفَنَّ بِأَقْصَى دَرَجَاتِهِ.
هَكَذَا كَانَ أَبُو نُوَاسٍ، فِي تِلْكَ اَلمَجَالِسِ اَلمَجْنُونَةِ، الَّتِي اَمْتَلَأَتْ بِاَلْغَرَامِ وَ اَلتَّهَوُّرِ، حَيْثُ كَانَ يَحْتَفِلُ بِكُلِّ لَحْظَةٍ وَ يُغَنِّي لِلْحَيَاةِ كَمَا يَشَاءُ.
المانيا في ٩ شباط ٢٠٢٥
__________________
fouad.hanna@online.de
|