![]() |
Arabic keyboard |
#1
|
||||
|
||||
![]() مع أبي العلاءِ في عَزلتِهِ بقلم: فؤاد زاديكي لَقَدْ كَانَتْ رِحْلَتِي إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ زِيَارَةً لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى اَلْمَعَارِفِ اَلسَّيَّاحِيَّةِ أَوْ اَلْأَمَاكِنِ اَلتَّارِيخِيَّةِ، بَلْ كَانَتْ رِحْلَةً نَحْوَ اَلْفِكْرِ، نَحْوَ اَلشَّاعِرِ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ عَزْلَةً تَامَّةً لِسِنِينَ طَوِيلَةً. كَانَ ذَٰلِكَ اَلتَّشْخِيصُ هُوَ أَبُو اَلْعَلَاءِ اَلْمَعَرِّيِّ، اَلفَيْلُسُوفُ وَ الشَّاعِرُ، اَلَّذِي أَدْهَشَ اَلعَالَمَ فِي زَمَانِهِ بِحِكْمَتِهِ وَ جَوَانِبِ شَخْصِيَّتِهِ اَلْمُعَقَّدَةِ. وَجَدتُّهُ فِي بَيْتِهِ اَلقَدِيمِ، حَيْثُ جُدْرَانٌ حَجَرِيَّةٌ تَشْهَدُ عَلَى اَلْعَزْلَةِ، اَلَّتِي فَرَضَهَا عَلَى نَفْسِهِ طَوَاعِيَةً. حِينَ وَصَلْنَا إِلَى اَلْمَعَرَّةِ، تَجَوَّلْتُ فِي شَوَارِعِهَا اَلضِّيقَةِ اَلْمُؤَدِّيَةِ إِلَى بَيْتِهِ، وَ كُنتُ أَتَسَاءَلُ عَنْ اَلْحَالَةِ اَلنَّفْسِيَّةِ لِهَذَا اَلرَّجُلِ، اَلَّذِي اخْتَارَ اَلْعَزْلَةَ لَيْسَ بِسَبَبِ اَلظُّرُوفِ اَلْخَارِجِيَّةِ، بَلْ بِسَبَبِ قَنَاعَاتِهِ اَلدَّاخِلِيَّةِ. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ اَلزَّمَنِ اَلطَّوِيلِ، الَّذِي مَرَّ عَلَى هَذِهِ اَلحِوَارَاتِ، إِلَّا أَنَّ اَلْمَكَانَ نَفْسَهُ كَانَ مَلِيئًا بِذِكْرَيَاتِ اَلْعَزْلَةِ وَ حِكْمَتِهَا. دَخَلْتُ إِلَى دَارِهِ اَلضّيّقةِ، اَلَّتِي لَا تَكَادُ تَتَّسِعُ لِأَثَاثٍ بَسِيطٍ، وَ يَظْهَرُ أَنْ اَلمُغْرِبَاتِ كَانَتْ حَامِلَةً لِعَبْقِ اَلتَّارِيخِ وَ اَلْحِكْمَةِ. كَانَ يَجْلِسُ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ غُرْفَتِهِ، مَشْغُولًا فِي كِتَابَتِهِ لقَصِيدَةٍ أَوْ تَفْكِيرٍ فِي مَسْأَلَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ. وَ عِندَمَا رَآنِي، رَفَعَ رَأْسَهُ وَ ابْتَسَمَ اَبتِسَامَةً لَا تَخْلُو مِنْ شَيْءٍ مِنْ اَلحُزْنِ وَ اَلتَّفَهُّمِ اَلْعَمِيقِ لِلْعَالَمِ. كَانَتْ مَلَامِحُ وَجْهِهِ تَحْمِلُ آثَارَ سِنِينَ مِنْ اَلْعَزْلَةِ، لَكِنَّ عَيْنَيْهِ كَانَتَا تَلْمَعَانِ بِذَكاءِ وَ حِكْمَةٍ نَادِرَةٍ. جَلَسْتُ إِلَى جَانِبِهِ، وَ سَأَلْتُهُ: "أَبَا اَلْعَلَاءِ، لِمَاذَا اخْتَرْتَ أَنْ تَكُونَ رَهِينَ اَلْمِحْبِسَيْنِ، اَلبَصَرِ وَ السِّجْنِ؟ لِمَاذَا هَذِهِ اَلْعَزْلَةُ اَلطَّوِيلَةُ؟" نَظَرَ إِلَيَّ بِحِكْمَةٍ وَ أَجَابَ: "أَيُّهَا اَلزَّائِرُ، اَلْعَزْلَةُ لَيْسَتْ سِجْنًا حَقِيقِيًّا. إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ سَجِينًا لِلْجُدْرَانِ، بَلْ سَجِينًا لِفِكْرِي. إِنَّ اَلبَصَرَ، رَغْمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ، هُوَ مَصْدَرٌ كُلِّ اَلتَّشَقُّقِ. فَقَدْ أَسَاءَ اَلْإِنسَانُ اَسْتِخْدَامَهُ، وَ أَصْبَحَ يُعْمِيَهُ عَنْ اَلْحَقِيقَةِ. وَ لِذَٰلِكَ، كَانَ عَلَيَّ أَنْ أُغْلِقَ عَيْنَيَّ عَنْ هَذَا اَلعَالَمِ اَلطَّاغِيِ وَ أَبْحَثَ عَنِ اَلْحَقِيقَةِ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِي." اِسْتَفْهِمْتُ مِنْهُ قَائِلًا: "وَ لَكِنْ، أَبَا اَلْعَلَاءِ، أَلَيْسَ هَذَا اَلهُرُوبُ مِنْ اَلعَالَمِ نَوْعًا مِنَ اَليَأْسِ؟ أَلَمْ تَخَفْ أَنْ تَختَارَ اَلعَزْلَةَ و اَلفِكْرُ يَتِيهُ فِي اَلسَّوَادِ؟" أَجَابَنِي بِاِبْتِسَامَةٍ مَشُوبَةٍ بِاَلحِكْمَةِ: "إِنَّكَ تَرَى اَلعَزْلَةَ مِنْ زَاوِيَتِكَ. أَعْتَقِدُ أَنْ اَلعَزْلَةَ هِيَ فُرْصَةٌ لِلانْفِصَالِ عَنْ اَلطَّوَابِعِ وَ اَلرَّكْضِ وَرَاءَ اَلتَّافِهَاتِ. فِي صَمْتِ اَلعَزْلَةِ، يُمْكِنُكَ أَنْ تَجِدَ نَفْسَكَ اَلحَقِيقِيَّةَ وَ تَكْتَشِفَ عَالَمًا آخَرَ، عَالَمًا تَتَنَاغَمُ فِيهِ أَفْكَارُكَ مَعَ اَلكَوْنِ. مَا يَصْنَعُ اَلعَزْلَةَ لَيْسَ اَلْاِنْغِلاَقَ، بَلْ اِنْفِتَاحُ اَلبَحْرِ عَلَى آفاقٍ أُخْرَى." ثُمَّ هَمَسَ لِي بِلُغَةِ اَشْعَارِهِ: "خُذِ اَلْعَفْوَ مِنِّي وَ الطَّيِّبَ فِيكَ وَ أَعْرِضْ عَنِّي يَحْيَا حُبُّكِ." فَأَجَبْتُهُ: "أَبَا اَلْعَلَاءِ، أَنتَ فِي هَذَا اَلْبَيْتِ تَشْعُرُ وَ كَأَنَّكَ تَدْعُو إِلَى نِسْيَانِ أَعْبَاءِ اَلْحَيَاةِ بِكُلِّ تَقَلُّبَاتِهَا، وَ الْاِبْتِعَادِ عَنْ اَلمُجْتَمَعِ. فَهَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ اَلْاِبْتِعَادَ عَنْ اَلنَّاسِ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى حَيَاةٍ أَفْضَلَ أَمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ هُرُوبٍ مِنَ اَلوَاقِعِ؟" أَجَابَنِي بِهُدُوءٍ: "أَيُّهَا اَلزَّائِرُ، اَلْحَيَاةُ اَلطَّيِّبَةُ لَا تَكُونُ فِي كَثْرَةِ النَّاسِ وَ لَا فِي صَخَبِ اَلحَيَاةِ، بَلْ فِي خَلْوَةِ اَلفِكْرِ وَ حُرِّيَّتِهِ. أَمَّا إِذَا كُنتَ تَرَى اَلعَزْلَةَ هُرُوبًا، فَأَنَا أَرَاهَا بَحْثًا عَنْ اَلْحَقِيقَةِ، وَ الانْفِتَاحَ عَلَى اَلتَّحْرِيرِ اَلطَّبِيعِيِّ لِلنَّفْسِ." وَ ابْتَسَمَ قَائِلًا: "وَ مَا النَّاسُ إِلَّا كَالْرِّيحِ أَوِ اَلطَّيْرِ يَأْتُونَ وَ يَذْهَبُونَ وَ لَا تَسْتَمِرُّ اَلْحَيَاةُ فِي مَسَارِهِمْ." سَكَنَ الصَّمْتُ بَيْنَنَا لِحَظَاتٍ، حِينَ تَفَكَّرْتُ فِي كَلِمَاتِهِ. كَانَ صَوْتُ رِيحٍ خَفِيفَةٍ يَستَرْسِلُ مِنْ خَارِجِ اَلْبَيْتِ، وَ كِأَنَّهَا تُذَكِّرُ بِفِكْرِهِ، اَلَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى اَلْصَّوْتِ لِيُسْمِعَ. تَجَرَّدَ مِنْ ضَغْطِ اَلدُّنْيَا، وَ تَجَسَّدَ فِي هَذَا اَلتَّفَكُّرِ وَ الْحِكْمَةِ. قُلتُ لَهُ، وَ قَلْبِي مَلآنٌ بِمَا سَمِعْتُ: "إِنَّ المُفَكِّرَ مِثْلَكَ يَحْتَسِي مِنْ حِكْمَتِهِ حَتَّى تَكُونَ لِبِسَاطِهَا نُورًا. لَكِنْ أَيُّ فِكْرٍ هُوَ، الَّذِي يَحْتَسِي مِنْهُ إِنْ غَابَ عَنْهُ مَنْ يَشْرَحُهُ؟" فَأَجَابَ فِي هُدُوءٍ، وَ فِي صَوْتِهِ لَمْحَةٌ مِنْ أَشْوَاقِ فَكْرِهِ: "هَذِهِ هِيَ قُوَّةُ اَلعَزْلَةِ، أَنْ تَحْتَسِي وَحْدَكَ اَلطَّعَامَ فِي صَمْتٍ، وَ تَشْرَبَ حِكْمَتَكَ فِي غِيَابِ النَّاسِ. أَمَّا إِذَا غَابَ عَنْكَ مَنْ يَفْهَمُكَ، فَكُنْ أَنْتَ، الَّذِي يَفْهَمُ وَ مَعَ كُلِّ تَفَكُّرِهِ، أَحْسَسْتُ بِأَنَّ اَلتَّفْكِيرَ وَ النَّفْيَ عَنِ اَلدُّنْيَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِيُحْدِثَ التعديل الأخير تم بواسطة fouadzadieke ; 21-02-2025 الساعة 07:25 AM |
#2
|
||||
|
||||
![]() اسرار الصمت شكري و امتناني العميقان لكم استاذة اسرار الصمت و لمجلة ضفاف القلوب لتوثيق نصي مع أبي العلاء في عزلته https://dhifafgolob.blogspot.com/202...oy1fUYC5Mqvxtw |
#3
|
||||
|
||||
![]() أتقدم بأخلص عبارات الشكر و أعمق معاني الامتنان لمعالي الدكتور حسن الفياض و أكاديمية الفياض الدولية للسلام و الثقافة و الفنون لنشر و توثيق نصي مع أبي العلاء في عزلته في عدد هذا اليوم الجمعة المصادف ٢١ شباط ٢٠٢٥ من مجلة الأكاديمية
|
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|