![]() |
Arabic keyboard |
|
|||||||
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
سيرة حياة القديسة بربارة بقلم: فؤاد زاديكى تُعدّ القديسة بربارة من أكثر الشخصيات النسائية حضورًا في التراث المسيحي الشرقي، ولا سيّما في الكنائس السريانية والرومية واللاتينية، حيث شكّلت سيرتها نموذجًا للثبات على الإيمان في مواجهة الاضطهاد. وعلى الرّغم من تنوّع الرّوايات المتعلّقة بأصلها، إلّا أنّ أغلب المصادر الكنسية تُشير إلى أنّها عاشت في القرن الثالث الميلادي، في زمن ازدهرت فيه الوثنية واشتدّ فيه الضّغط على المسيحيين. تختلف المصادر حول موطنها الأوّل بين هيليوبوليس (بعلبك) ونيقوميدية والقسطنطينية، وهو تباين يعكس انتقال قصّتها بين المناطق وانتشارها الواسع في الأدب الهاغيوغرافي (سيرة حياة القدّيسين) المسيحي. كانت بربارة ابنة لرجل وثني يُدعى ديوسقوروس، عُرِف بصرامته وقسوته. ونتيجة خوفه عليها من أعين الناس، قام بحبسها في برج عالٍ، وهو عنصر رمزي تكرّره سير العديد من القدّيسات في التراث السرياني والبيزنطي. في هذا البرج، بدأت بربارة تتأمّل في الكون، فانفتح ذهنُها على أسئلة وُجودية دفعتها إلى البحث عن الإله الحق. وتُشير بعض المخطوطات السريانية إلى أنّها تعلّمَت أساسيات المسيحية سِرًّا، إمّا بواسطة معلّم مسيحي أو عبر قراءاتها وتأمّلاتها، ما جعلها تعتنق الإيمان الجديد رغم معرفتها بما ينتظرها من خطر. تَذكُر المخطوطات السريانية أنّ بربارة، بعد إعلانها الإيمان، قامت بتحطيم الأصنام الموضوعة في البرج. ويُعدّ هذا الحدث من أبرز التحوّلات في مسار قصّتها، فهو يُجسّد القطيعة بين الوثنية والمسيحية في حياة الفرد كما في المجتمع. من العناصر الأساسية الأخرى في الرواية إضافةُ نافذة ثالثة إلى الحمّام الذي بناه لها أبوها، وقد أرادت من خلالها أن تعبّر عن عقيدتها بالثالوث، وهو تفصيل فريد يَرِدُ بوضوح في نُصوص طور عبدين ودير الزّعفران. عندما اكتشف والدُها ما فعلته، ازدادَ غضبُه واعتبرَ الأمرَ عِصيانًا صريحًا، فقرّر تسليمها للحاكم لِتُعَذّبَ عَلَنًا. قبل القبض عليها، حاولت بربارة الهرب. وهنا تروي المصادر السريانية إحدى أشهر المعجزات المرتبطة بها: فقد مرّت بحقل قمح، فاستجاب الحقل بصورة خارقة ونمت سنابله فجأة لِتُخْفِي آثارَ قدميها عن الجنود الذين يطاردونها. تُعَدّ هذه الرّواية حجر الأساس في التّقاليد الشعبية المرتبطة بـ"البربارة"، إذ شكّلت تفسيرًا رمزيًا لعادة تحضير القمح المسلوق في عيدها، وهي عادة ما تزال حاضرةً في المجتمعات السريانية والشرقية إلى اليوم، حيث يُنظَرُ إلى القمح بوصفه رمزًا للحياة والخصب والحماية. بعد القبض عليها، تعرّضت بربارة لتعذيب قاسٍ، إلا أنّها بَقِيَت ثابتةً على إيمانها، وفقاً لما تذكره نصوص الشهداء. وقد شارك والدُها نفسه في اضطهادها، بل إنّ بعض الروايات تؤكد أنّه هو من قطع رأسَها بيده، وهو تفصيل يُضفي على سيرتها بُعدًا نفسيًا وأخلاقيًا قويًا، إذ تتحوّل العلاقة الأبوية إلى أداة اضطهاد. وبعد تنفيذ حكم الإعدام، ضرب البرقُ والدَها فماتَ على الفور، ما اعتُبِر علامةً إلهيةً على براءتها وقداستها. هذه النُهاية الدّرامية أسهمت في ترسيخ حُضورها في المخيال الشّعبي والطقسي. أصبحت القديسة بربارة رمزًا للشجاعة، وقد اتسعتْ مكانتُها لتشملَ حمايةَ الجنود والبنّائين والعاملين في المهن الخَطِرة. ومع الوقت، تطوّرت سيرتُها لتصبحَ جزءًا من الطقوس الشتوية في المجتمعات المسيحية في بلاد الشام والأناضول. يحتفظ الناس بعادات اجتماعية مرتبطة بعيدها، مثل تَحضِيرِ القمح، وتَنَكُّرِ الأطفال وطَرْقِ الأبواب، وهي ممارساتٌ تحمل طابعًا فولكلوريًا يقارنها البعض بالهالووين ولكنّها في الأصل تعبيرٌ محليٌّ عن احتفال ديني وشعبي طويل الجُذور. تكشفُ سيرةُ القديسة بربارة، سواءً في بُعدِها الرّوحي أو الشّعبي، عن تفاعُلٍ عميقٍ بين النّصّ الدّيني والبيئة الثّقافية والاجتماعية. فالرّموزُ التي تحملُها قصّتُها–البرج، الأصنام، النّافذة الثالثة، القمح، والبرق–تحوّلت إلى عناصر حيّة في الذّاكرة المسيحية الشّرقية. كما أنّ تدَاخُلَ الرواية التاريخية مع المخيلة الشعبية يبيّن كيف يُمكن لشخصيةٍ واحدةٍ أن تجمعَ بين القداسة والأسطورة، وأنْ تُصبحَ جسرًا بين الدّين والتّراث، وبين الماضي والحاضر. وبذلك، لم تَبْقَ بربارة مجرّد قديسةٍ من القرون الأولى، بل تحوّلت إلى ظاهرةٍ ثقافية واجتماعية متجدّدة، لها حضورُها الخاصّ في كلِّ بيتٍ وقريةٍ وكنيسةٍ في المشرقِ. ويُحتفلُ بعيد القديسة بربارة في المجتمعات السريانية والمشرقية بطريقة تعكس هذا التداخلَ بين الإيمان والتّراث، حيث يمنح العيد بُعدًا اجتماعيًا وروحيًا في آنٍ واحدٍ. ففي السريان الأرثوذكس والكاثوليك على حدّ سواء يُحضّر القمح المسلوق ممزوجًا باليانسون والمكسّرات والدّبس أو السّكر كرمز للخِصب والحياة الجديدة، وهو تقليد يعود إلى معجزة نموّ سنابل القمح في قصة هروبها. وفي القُرى السريانية في طور عبدين ونصيبين كانت تُقام تجمّعات عائلية يَقرأ فيها كبارُ السنّ قصّتَها باللغة السريانية، ويقوم الأطفال بالتنكّر بأزياء مختلفة وقرع الأبواب طلبًا للمكسّرات والحلوى، في طقس يُذَكِّرُ بفرحِ الطفولةِ واحتفالاتِ الشتاء القديمة. أمّا في لبنان وسوريا فقد تطوّرت العادةُ بحيث صارت "البربارة" مناسَبَةً اجتماعيةً واسعةً تشملُ تحضيرَ الحلويات وتبادلَ الزياراتِ وتَنكُّرَ الأطفالِ، حتى باتت جُزءًا من الهُوِيُة الثّقافية الشتوية لتلك البلدان. يحملُ هذا العيد في الوجدان الشعبي دلالاتِ الحماية والبركة، ويُعدّ يومًا لتجديدِ الرّوابط العائلية واستحضارَ رمزيّة القديسة كحامية من الأخطار، وهو ما يُفسِّرُ استمرارَه حيًا رغم تغيّر الأزمنة. ويعكسُ انتشار الاحتفال بالبربارة في مختلف المناطق السريانية والمشرقية تناغُمًا بين الذّاكرة الدينية والتقاليد الريفية، ويُظهِر كيف يمكن لعيدٍ واحدٍ أن يُوَحّدَ جماعاتّ واسعةً عبرَ رمزٍ بسيطٍ: سنبلةُ قمحٍ وقصُّة إيمانٍ. المراجع والمصادر ܣܝܥܐ ܕܣܗ̈ܕܐ – كتاب الشهداء السريان (مخطوطات دير الزعفران ودير مار غابرييل). السينكسار السرياني – مخطوطات BNF باريس. السنكسار الأنطاكي – بطريركية أنطاكية. السنكسار البيزنطي، كانون الأول 4. Acta Sanctorum, December II – Bollandists. Brock, Sebastian. Syriac Hagiography: An Overview. Delehaye, H. Les Légendes Hagiographiques. F. Nau, Hagiographie Syriaque. Holweck, Frederick. Dictionary of Saints. الأب لويس شيخو، النصرانية وآدابها بين العرب. المطران إسحق ساكا، القديسون السريان. أنطوان صهيوني، الأعياد الشعبية في لبنان وسوريا. سعاد جروس، الموروث الشعبي السوري. دراسات حول عيد القديسة بربارة في Journal of Eastern Christian Studies. |
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
|
|